لقد تعودت بين الحين والآخر ومنذ سنوات خلتْ ، ان ازور الحدود الشمالية
واقف على ذكريات امتدت لأكثر من ثلاثين عاما ،كانت مليئة بالفرح والحزن ، ومشبعة
بالأمل والخيبة .هذه الزيارة التي اتت بعد ثلاثة عشرة عاما على نبوءة باراك
العظيمة التي انعمت على الشرق الاوسط بالهدوء والسلام ، وبورِكتْ فيها خطوات
الحكمة والدراية .
وقفت متأملا بالشمال البعيد مستأنسا بتلك النسمة الشمالية ولسعتها الباردة
، لتذكرني بجبل حرمون وبهالة الشيخ الوقور . وقفت امام تلك البوابة التي عبرتْ من
خلالها آلاف الأحلام والامنيات على امل نهاية السلام السعيدة وحسن جوار آمن وحر
وكريم . وقفت امام تلك البوابة التي صدأت واكلتها الذكرى واحالتها الى التقاعد
المبكر ، وقفت استرجع ايام التواصل والالفة والمحبة ، شاردا في الغد المجهول ، الى
ان همس بقربي احد الزائرين سائلا : من اين انت ؟ اشرت له باني من لبنان ، قال :
انا من تل ابيب ، فقلت اهلا وسهلا ووو....
وسكتنا برهة ثم اشار بيده ناحية الشمال وقال : أيمكنك ان تدلني على مكان يدعى تلة
الرحيّات ؟ اجبته بنعم واشرت له عن مكانها بالتحديد . وقف هذا الرجل متأملا بتلك
التلة البعيدة وسرعان ما اغرورقت عيناه بالدمع ومسح خده والتفت الي وقال : هناك
مات ابني ... هناك استشهد ولدي كما تقولون بلغتكم... لقد كان شابا يافعا ابن
الخامسة والعشرين من عمره ، كان ضابطا شجاعا ومقداما ، لقد قالوا لي بانه سقط في
مواجهة ضد اعداء السلام . شددت على يده وقلت له :هناك ،، في كل مكان لديّ ذكرى
لاحد الرفاق ،، هناك فقدت جنودا وضباطا ، شيوخا واطفالا ، دفاعا عن حلم حلمنا به
ربما قبل اوانه ، او انه لا يجوز لنا ان
نحلم بأكثر من اليقظة التي نعيشها ، بكى هذا الرجل وابكاني معه ، لعن ولعنت بدوري
، فكان تعارف اللعنة والدمعة وذكرى الولاء والانتماء .
اخي القارئ
لنا فوق كل تلة شاهد ، ولنا شواهد تشهد على البطولات والتضحيات ، وسبل مياه
خلف كل زاوية ومنعطف تطفئ لهيب عطشى الحرية والوطنية ،لنا اسماء حُفرتْ في ذاكرة
التاريخ ولنا رسائل تشهد على الايام المشهودة ، لنا ذكريات لا تمحيها فواصل ولا
حواجز ، ذكريات تعتق ولا تصدأ ، انها ذكريات اجيال مرّت واجيال تمر ، واخرى ستمرّ
محملة بالفخر والعزة والكرامة .
ما احوجكم الينا وما احوج هذا الوطن المسكين الى رسالتنا الوطنية الحقيقية
، وما احوج لبنان الى لبنانيين حقيقيين يعرفون لبنان الوطن ، لا كم لبنان في الوطن
، يعرفون كيف يحبونه لا كيف يدمرونه ، يعرفونه الوطن النهائي ، لا نهاية وطن ، كم
احوجكم الى روح الجنوبي واخلاص الجنوبي وصبر الجنوبي ، كم احوجكم الى من يهديكم
الى الالفة والمحبة والتآخي ، هكذا كنا في الجنوبي وهيهات ان تصبحوا كما كنا عليه
الا اذا اقسمتم قسمنا وتعهدتم عهدنا ، فيا ايها اللبنانيون قفوا صفا واحدا وارفعوا
الصوت عاليا ورددوا نعم للبنان لا لسواه ، نعم للوطن لا لسواه ، نعم لهذا التراب
لا لسواه . كونوا القاعدة الصلبة من دون راية سوداء ، كونوا المستقبل بلا عباءة
زرقاء ، كونوا مؤمنين بالله ولكن من دون حزبه ، كونوا الامل له ولكن من دون حركته
، كونوا احرارا من دون تيارات ولا تنظيمات وامشوا درب الصليب من دون تحية ولا
اناشيد ، كونوا مثلنا وتعلموا امثولتنا ، والله ما صاح ديك جنوبي الا وولّدت
الوطنية شبلا لكل لبنان ولأمة لبنان ولأرز لبنان .
ايها اللبناني
دع التعصب جانبا ، ودع الطائفة والمذهب والحزب والتنظيم ، ولنلقي نظرة
سريعة على ما آلت اليه الاوضاع في وطن الاوجاع ، هذا الوطن البلد الذي استبحته انت
اولا بولائك الأعمى لزعيمك ورئيسك ووزيرك ونائبك ، واقول قف وتأمل :
وطن بلا ولاء ،، وطن بلا انتماء ،،وطن في خبط عشواء ،وطن دون ماء ودون
كهرباء ، دون دواء ولا استشفاء ، وطن الذل والعناء، والحمد لله بانك ما زلت تمتلك
فيه حذاء، ولا زلت تركض خلف هؤلاء البلهاء ؟
تذكر ايها الأخ الكريم
سنبقى النموذج الذي يجب ان يعمّم على جميع مكونات الشعب اللبناني ، من
احزابه وتنظيماته الى مؤسساته وجمعياته . لم نكن حزبا بل كنا موالاة ،لم نكن تنظيما
بل وطنيون مخلصون ، لم نكن جمعية بل كنا
المجتمع اللبناني الاصيل وروح الامة اللبنانية الصالحة .
ايها اللبنانيون
سنبقى النموذج الذي لا بديل عنه ، سنبقى التاريخ الذي سيكتبْ تاريخ لبنان
الحديث ،سنبقى الامثولة التي سيتناقلها الاطفال ،وسنبقى المثل الاعلى لكل شاب ومحب
ومخلص .
سنبقى النموذج ،،، وستعودون الينا بعد ان تتلاشى نماذجكم وتختفي .
ستبقى هذه الظاهرة الفريدة من نوعها والتي لن تعود ابدا لأننا لا نستحقها .
سنبقى النموذج ،، للفخر والكرامة والحرية والاباء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق