الجمعة، 27 فبراير 2015

الرسالة الاخيرة


كتبت حتى تعب قلمي واشتد المي ، وابت الكلمات الا ان تبقى حيث لا نقط ولا حروف ،لتتساقط على الاوراق بقعا ترطب ما يبس وقسى . ويْحي لهذا السكون المزعج وهذا السكوت المرعب ، ويْحي مني ومن شكوكي فقد تأكدت الآن ، نعم ولا ضير في قول الصحيح ، لقد تقدمت في السن بل تقدمت على السن ولكنني لا ازال انتظر بلوغ الرشد علّي اعي ما انا فيه وعليه .

بالأمس تسلقت شجرة التين ونافست عصافير الصيف في تذوق ما طاب لها ولذ، عانقت الحور والدلب والصفصاف ولامست مناقيد الدوري والحسون ، غمرت بعض الغيوم الشاردة واحتضنت الغروب ، ورافقت الليل الى سهر الليل... بالأمس كان الغد لي واليوم امسيت اتوق لعودة الامس ، فما بين الغد والامس الا لحظة لا نستطيع اعادتها ولا الاحتفاظ بها . هذا هو حالي اليوم هيكل من اماكن وازمنة وغبار وصفحات مهترئة .

وقفت على حافة الزمن ونظرت الى الخلف محاولا استرداد ما بعُدَ وغاب وانقضى ، جهدت بالعودة الى رفوف علتْ ، استعنت بكرسي صغير وصعدت برجل واحدة خوفا من الانزلاق، حملت دفتري الوحيد الباقي من دفاتر الذاكرة، وبدأت اقلّب صفحاته من اليسار الى اليمين بدءً من الماضي القريب الى الابعدِ والابعدْ ، الى حيثما تستطيع العين المشاهدة وتستطيع الذاكرة التعرّف. اجمل ما في هذه المطالعة هي بأني اقرأ دون الخوف من رهبة الامتحان نهاية الفصل، لقد اُقفِلتْ المدرسة ورحل الاساتذة وذبلت الشهادات وباتت رسوما خرساء تعانق الحائط الرطب ، تشير فقط الى اسم وتاريخ وبقايا فخر واعتزاز .

اليوم وقد انهيت وظيفتي في البناء والتربية ووصْل القديم مع الآتي المجهول في استمرارية البقاء، اليوم اكتب الذي لم استطع كتابته ولم اجرؤ على رسمه او نشره او الحديث عنه ، اكتب اليوم عن الامس بقلم الامس لأمجّد الامس وافتخر بالأمس لأنني لا انتظر من الغد غدٍ ، بل الغد عندي نهاية غير مرغوبة وهدوء لا يطلبه الكثيرون .

يا بني

لا تدع هذه الكلمات تحبطك بل خذ منها الجبروت والقوة لتعرف ما ستستغرقه سنينا لفهمه وادراكه . يقولون كبرنا ، نعم كبرنا ، وانا اقول عكس ذلك ، لقد صغرنا ؟ لا ، فكلما نكبر نصغر ، نصغر امام هذه السنوات الطوال ، نصغر امام الصعاب والمحن ، نصغر امام هول الذكرى والذاكرة ، نصغر لأننا نتراجع ونعود ادراجنا ، نصغر في الفعل ونكبر في الادراك والصبر ،نكبر في التجربة ونصغر امام النتيجة ، نصغر على التحمل ونكبر على التذمر ، نصغر امام الحاجة ونكبر على الطلب والمعونة ، نصغر ونصغر الى درجة ان نرى الكبر فيكم انتم . اكبرُ بك يا ولدي ، وافتخرُ بك بعلمك وبشهادتك ، اكبر بسلوكك واخلاقك ، اكبر بتواضعك وعطائك ، اكبر فيك لأنك تمثل كبريائي ومبادئي وخط حياتي . يا ولدي اصغر امامك في تقبيل وجنتيك وملامسة جبينك ، هكذا اكبر وهكذا اصغر وما بين الصغر والكبر نجد العبر وبصمات القدر فدع بصمتك تقوى وتشتد لا يمحيها زمن ولا يخفيها عمل .

اقف امام صور وكلمات ، امد اليد فترتجف الاصابع ولا اخفيك سرا بوجود بعض الصعوبة للدلالة على ما اقصد ، انحرف قليلا ثمّ استقيم بعدها لأجد السبيل في الاشارة ولأعطي الوقت الكافي للنطق بالكلمة المناسبة . لا همّ عندي ولا حسرة طالما يغنيني الوجود بوجودكم ، ولا صعاب امامي طالما انتم بالقرب مني ، استجمع النشاط وابذل القوة فور سماع ما تريدون ،والبّي النداء قبل ما تطلبون ، فان عجزت فلا تتوقفون عن المناداة فصوتكم يقويني ويشد من عزيمتي ، فوالله لو كنت بيد واحدة وبرجل واحدة فهذا لن يثنيني عن تلبية ما ترغبون .

يا بني

هذا ما انا عليه وهذا ما اريده ان تكون ، بوركت وبوركتم جميعا ، افتخر بكم واكبر بكم واصغر من اجلكم ، حفظكم الله ،،

حفظكم الله