الاثنين، 13 أبريل 2015

من تحت الدلفة لتحت المزراب



الثالث عشر من نيسان عام 1975 ، تاريخ طُبع بذاكرة اللبنانيين يقفون امامه حائرين ما بين التذكر والنسيان ، التذكر لأخذ العبر والعودة الى الذات لتبيان الخطأ والاصلاح ، ام النسيان والعبور الى اللامبالاة  والاختباء وراء الشعارات والتبريرات والحجج التي هي اقبح من ذنب .

الثالث عشر من نيسان عام 1975 ، كانت معارك صيدا على اشدها بين الجيش اللبناني وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية ، وانا كنت وقتها في الجيش اللبناني بصفة طالب احتياط ، اقاتل من اراد المس بشرعية الوطن والمس بكيان هذا الوطن والمتاجرة بأرواح ساكنيه ومقيميه وعابري سبيله ، كنت اخوض المعارك لأنني ابن الجنوب وهذا يعني بأنني ابن اتفاق القاهرة 1969 المشؤوم سيء الذكر ، وهذا يعني انني أعي اكثر من غيري ولو قليلا قيمة الوطن وقيمة الحرية وقيمة الكيان ، وهذا يعني انني اخوض الحرب لا من اجل حزب او طائفة او مذهب او محور او تحالف او قضية ، اخوض حرب البقاء لي ولعائلتي وحرب الآخرين الذين داسوا على كل ما يمكن ان يكون لبنان .

اخي القارئ

عزفنا نشيدا بعيدا كل البعد عن النشيد الوطني ، ولحنا اناشيد تشيد بجميع الخلق باستثنائنا ، قرعنا طبول الآخرين ومشينا برأس القافلة ، دفعنا من دون سؤال واشترينا دون حاجة وانخرطنا من دون خبرة حتى اصبحنا بقائمة لا حاجة لنا ، تهْنا ما بين التغيير والانتماء وفقنا حفاة وعراة ، ويقف الجميع الآن محللا مناقشا كيف لماذا ومن اين والى اين ، وكان يجب ، وكان من الافضل .

الثالث عشر من نيسان عام 1975 ، منظمة التحرير الفلسطينية مسلحة ومدربة تسيطر على الجنوب وعلى المخيمات ومحيطها ، تمارس الضغط هنا والتهديد هناك والويل كل الويل لمن يسيء الى القضية الفلسطينية ، تنشر الاتهامات بالعمالة والتصهْين ،تسيطر على الارض وتمسك برقاب القرار الوطني اللبناني ، واحزاب تصطف في اليسار واخرى في اليمين والحوار عبر اكياس الرمل والمتاريس ، والبوسطة تمر ويمر معها قدر هذا الوطن ويتعلق بعجلاتها مصير شعب عانى الامرين ما بين من باع القضية ومن لا يزال ينادي على بيعها .

 واليوم:

الثالث عشر من نيسان عام 2015 ، حزب الله يسيطر على الجنوب وعلى الضاحية والبقاع وقسم كبير من الشمال ، يسيطر على الارض ويمسك بالقرار الوطني اللبناني ، واحزاب تؤيده وتنضم تحت لوائه واخرى تناهضه وتقف في المقلب الآخر ،وكل من يخالف هو عميل متصهين ، والشعب المسكين يقف حائرا من جديد امام من لا يزال ينادي على القضية الفلسطينية ويكرس انتماءه وولاءه الى ولاية الفقيه الايرانية ، وما بين الجمهورية الاسلامية والقضية الفلسطينية ضاعت الجمهورية اللبنانية وضاعت الهوية الوطنية،  اوليس التاريخ يعيد نفسه؟

اخي القارئ

نعم صديقي من تحت الدلفة لتحت المزراب ، من منظمة التحرير الفلسطينية واليسار اللبناني الى حزب الله وقوى ثماني آذار ، من الجبهة اللبنانية وقوى اليمين المعتدل الى 14 آذار وبعض القوى المعتدلة التي اعتنقت الوسطية بمعايير انتخابية ،من زعماء الميليشيات الابطال الى نواب الامة الابرار ، من المارونية السياسية الى الشيعيّة العقائدية ،ومن السنيّة العروبية الى السنية الخلافية (دولة الخلافة)، ومن الدروز الموحدين الى الدروز المتوحدين ،

نعم من تحت الدلفة لتحت المزراب ،من العروبة والناصرية الى الاسلام والفارسية ، ومن مسيحية مار مارون الى مذاهب الصلبان الاربعة ومن سيتربع على عرش فاتيكان – بعبدا ، سطوحنا تدلف ومزاريبهم تتدفق ولبنان عطش الى ادنى قطرة من المسؤولية الاخلاقية والانسانية .اربعون عاما ولا يزال الاربعون حرامي في العز والجاه والعنفوان ، يصولون يجولون ويحاضرون في الوطنية والديمقراطية والقومية والشمولية والعولمة والى كل ما تطال ايديهم وينطق لسانهم وتريده غيرتهم .

بعد اربعين عاما ، لن اذهب بعيدا في المساءلة والمقاربة والتفسير واخذ العبر وسؤال من يدري او يعلم او درس ، لن اذهب لأحد بل سأعود الى نفسي ، الى ذاتي لأسأل بصدق واجاوب بصدق اكثر ، نعم بصدق لأنني سأحاور اولادي الذين كبروا وتعلموا وادركوا وآن لهم ان يعلموا الحقيقة والوقائع بكل موضوعية وشفافية . اعود الى نفسي لأني شاركت منذ البداية منذ البوسطة الاولى عام 1969 الى بوسطة عام 2000 والطريق سالكة والبوسطات بانتظار الدور والضوء الاخضر .

يا بني

الثالث من كانون اول عام 1969 ، انطلقت بوسطة اتفاق القاهرة لتشق طريقها باتجاه الجنوب وكانت محطتها شرق نهر الحاصباني ونزل ركابها الابطال من ابي الهول وابي الجماجم الى ابي الغضب وابي عمار وابي الدمار ، نزل ركابها لاستراحة قصيرة ليتابعوا السير باتجاه المطلة وصفد وحيفا ، ولكن البوسطة بنشرت ولم تعد تستطيع السير ووجب تغيير الدواليب ، والى حين انتهاء ورشة التصليح دفعنا ثمن " لبنان قوته في ضعفه" ، ودفعنا ثمن العروبة والقومية والصمود والتصدي واللاءات الثلاث لزعماء الخرطوم ، وانا دفعت ثمن البقاء والتمسك بالأرض من دم وعرق واهانات وذل وصبر.

الثالث عشر من نيسان عام 1975 ، انطلقت بوسطة ثانية بموديل احدث من سابقتها ولكنها من نفس المصنع ومن ذات الايادي المهرة ، انطلقت من مرآب ابو عمار من منطقة تل الزعتر وكانت محطتها الاخيرة في عين الرمانة حيث نشب ما نعرفه جميعا ، وانا كنت في صيدا اقاتل بصفتي طالب احتياط في الجيش اللبناني ، اقاتل نفس من قاتلتهم عام 1969 ، وندفع الثمن ثانية ، ثمن التقاعس السني وعدم انتمائه الى وطن نهائي وثمن المارونية السياسية التي احتفظت لنفسها بالإقطاع السياسي والانماء غير المتوازن ، وانا نفسي ثانية في خضم حرب لا افهمها ولا أعي بعدها السياسي ولا الايديولوجي بل اخوضها لأنني أحب لبنان وفقط لبنان .

الثلاثون من ايار عام  1976 دخلت بوسطة الاخوة المخلصة ودخلت معها تمنيات الاخوة العرب لهذا الوطن بالعزة والمنعة والخلاص ، وسارت هذه المركبة على طرقات لبنان لا من حسيب ولا من رقيب ، حتى باتت الوسيلة الاولى والوحيدة لنقل الساسة واصحاب الهمم العالية ، من لبنانيين وعرب واجانب ، ولكل من رغب في الدخول الى الجنة اللبنانية . نعم وبقيت هذه البوسطة الى ان اصبح بقاؤها عبئا على سائقها ، فرحلت بعد تسعة وعشرين عاما من الخدمة في نقل المساجين والمفقودين ، والمستشهدين والاستشهاديين والقتلة والبريئين ، والسارقين والمسروقين واللاعبين والمتفرجين وكل انواع البشرمن اليسار ومن اليمين .اللهم صبرنا والله مع الصابرين .

السابع من تشرين أول عام 1976 ، توقفت بوسطة الدولة اللبنانية نهائيا ونزل جميع ركابها واخذ كل منهم مساره وانطلق ، وانا انطلقت الى مسار مجهول في مقلب آخر وبعيد كل البعد عن كل ما تعلمته وادركته وتربيت عليه ، انطلقت الى حيث أرادني من بقي من بقايا الشرعية اللبنانية التي أجلُّ وأحترم وأطيع ، وخضت الحرب من جديد ضد العدو ذاته ولكن بحليف مختلف (اسرائيل) .

نعم يا بني

السادس من حزيران عام 1982 ،انطلقت بوسطة اخرى بحلة جديدة وماركة جديدة وهذه المرة من صناعة غربية ، هللّ لها القاصي والداني وزغردت النسوة في جبل عامل ورُشّ الورد ونُثرت الزهور والارز ، وأُستُقبل الجيش الاسرائيلي استقبال الفاتحين والمخلصين من ظلم ابو عمار وزمرته ( ربما نسي البعض هذه المسرحية الشيعية ) .نعم بعد هذا الاجتياح ركب من ركب ونزل من نزل ، والسائقون ينادون ولا من يسمع حتى انتهاء العمل في اتفاق 17 ايار ، وللأسف لم يقرأه احد ولم يناقشه أحد وطويت صفحة كانت حتما ستغير من مجرى التاريخ اللبناني ، ونحن من تحت الدلفة لتحت المزراب ، نتابع ما سبق في الجنوب وفي بيروت وفي الجبل ، وانا بانتظار بوسطة اخرى علّها تقلني وتقل الجميع الى محطة امان وسلام وهدوء .

الخامس والعشرون من شهر ايار عام 2000 ، محطة مصيرية ومفصلية قادت الوطن الى نفق التبعية والخروج فيه من الكيان الى الملحق ومن الوطن الى المخيّم ، محطة من تحت دلفة الاحتلال الاسرائيلي كما يقولون الى مزراب الاحتلال الايراني كما يقولون ايضا ، ناهيك عن بوسطة التطرف التي لا لون لها ولا ماركة ، سائقها اعمى وركابها بكمْ ، ونحن بعكس السير دائما ، وانا بانتظار بوسطة اخرى ايضا للعبور الى ما تبقى من حلم الجمهورية .

الرابع عشر من شباط عام 2005 شاءت الظروف ان تنتفض بلبنان وتعلن قيام الجمهورية الجديدة وانطلقت بوسطة الحرية بعد سنوات من الاحتلال والهيمنة والتبعية ، ولكن الركاب لم يرحموها ولم يداروا قوة تحملها فمشت ببطء وبشكل متقطع الى ان وقفت نهائيا على حافة الامل والرجاء ، وضاعت الجمهورية بين من احبها واحبها اكثر ومن احبها اكثر واكثر وتمزقت الاحلام .

اولادي الاحباء

محطات كثيرة على درب هذا الوطن المثقل بالبوسطات الغريبة ، محطات مميتة ومقيتة واللبناني يدفع للصعود وما يلبث ان يدفع ثانية للنزول ، ومع وعورة الطرقات وندرة البوسطات الجيدة لا يزال هذا الكيان ينتظر وسيلة صالحة لتنشله من الضياع ولكن:

هل تعلمنا شيئا؟

هل اتعظنا من كل ما مر بنا ؟

ربما اتكلم نيابة عن جيل كامل عاش الحرب بل عاش الحروب على أرض لبنان ، ربما نتفق على شيء واحد وهو عدم العودة الى الحرب ولكن هل الآخرون متفقون معنا على ذلك؟ وماذا نقول اذا كان البعض الآخر يجرنا الى الزواريب ثانية ؟
يا بني
مهما جارت الظروف وساءت الايام
لا للحرب
لا للتعصب المذهبي
لا للاحزاب

نعم وبعد اربعين عاما من تجاربي ،وبعد نجاحي بالعبور من فشل الى آخر ، وبعد فشلي بإحراز نجاح واحد ، في وطن النجاح فيه خيبة والفشل فيه غيبة ، وحتى لا ينجرّ اولادي من بعدي من تحت الدلفة لتحت المزراب ، أترك لهم حرية الحُكمِ والخيار ....... والقرار .