الثالث عشر من نيسان عام 1975 ، تاريخ طُبع بذاكرة اللبنانيين يقفون امامه
حائرين ما بين التذكر والنسيان ، التذكر لأخذ العبر والعودة الى الذات لتبيان
الخطأ والاصلاح ، ام النسيان والعبور الى اللامبالاة والاختباء وراء الشعارات والتبريرات والحجج التي
هي اقبح من ذنب .
الثالث عشر من نيسان عام 1975 ، كانت معارك صيدا على اشدها بين الجيش
اللبناني وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية ، وانا كنت وقتها في الجيش اللبناني
بصفة طالب احتياط ، اقاتل من اراد المس بشرعية الوطن والمس بكيان هذا الوطن
والمتاجرة بأرواح ساكنيه ومقيميه وعابري سبيله ، كنت اخوض المعارك لأنني ابن
الجنوب وهذا يعني بأنني ابن اتفاق القاهرة 1969 المشؤوم سيء الذكر ، وهذا يعني
انني أعي اكثر من غيري ولو قليلا قيمة الوطن وقيمة الحرية وقيمة الكيان ، وهذا
يعني انني اخوض الحرب لا من اجل حزب او طائفة او مذهب او محور او تحالف او قضية ،
اخوض حرب البقاء لي ولعائلتي وحرب الآخرين الذين داسوا على كل ما يمكن ان يكون
لبنان .
اخي القارئ
عزفنا نشيدا بعيدا كل البعد عن النشيد الوطني ، ولحنا اناشيد تشيد بجميع
الخلق باستثنائنا ، قرعنا طبول الآخرين ومشينا برأس القافلة ، دفعنا من دون سؤال
واشترينا دون حاجة وانخرطنا من دون خبرة حتى اصبحنا بقائمة لا حاجة لنا ، تهْنا ما
بين التغيير والانتماء وفقنا حفاة وعراة ، ويقف الجميع الآن محللا مناقشا كيف
لماذا ومن اين والى اين ، وكان يجب ، وكان من الافضل .
الثالث عشر من نيسان عام 1975 ، منظمة التحرير الفلسطينية مسلحة ومدربة
تسيطر على الجنوب وعلى المخيمات ومحيطها ، تمارس الضغط هنا والتهديد هناك والويل
كل الويل لمن يسيء الى القضية الفلسطينية ، تنشر الاتهامات بالعمالة والتصهْين
،تسيطر على الارض وتمسك برقاب القرار الوطني اللبناني ، واحزاب تصطف في اليسار
واخرى في اليمين والحوار عبر اكياس الرمل والمتاريس ، والبوسطة تمر ويمر معها قدر
هذا الوطن ويتعلق بعجلاتها مصير شعب عانى الامرين ما بين من باع القضية ومن لا
يزال ينادي على بيعها .
واليوم:
الثالث عشر من نيسان عام 2015 ، حزب الله يسيطر على الجنوب وعلى الضاحية
والبقاع وقسم كبير من الشمال ، يسيطر على الارض ويمسك بالقرار الوطني اللبناني ،
واحزاب تؤيده وتنضم تحت لوائه واخرى تناهضه وتقف في المقلب الآخر ،وكل من يخالف هو
عميل متصهين ، والشعب المسكين يقف حائرا من جديد امام من لا يزال ينادي على القضية
الفلسطينية ويكرس انتماءه وولاءه الى ولاية الفقيه الايرانية ، وما بين الجمهورية
الاسلامية والقضية الفلسطينية ضاعت الجمهورية اللبنانية وضاعت الهوية
الوطنية، اوليس التاريخ يعيد نفسه؟
اخي القارئ
نعم صديقي من تحت الدلفة لتحت المزراب ، من منظمة التحرير الفلسطينية
واليسار اللبناني الى حزب الله وقوى ثماني آذار ، من الجبهة اللبنانية وقوى اليمين
المعتدل الى 14 آذار وبعض القوى المعتدلة التي اعتنقت الوسطية بمعايير انتخابية
،من زعماء الميليشيات الابطال الى نواب الامة الابرار ، من المارونية السياسية الى
الشيعيّة العقائدية ،ومن السنيّة العروبية الى السنية الخلافية (دولة الخلافة)،
ومن الدروز الموحدين الى الدروز المتوحدين ،
نعم من تحت الدلفة لتحت المزراب ،من العروبة والناصرية الى الاسلام
والفارسية ، ومن مسيحية مار مارون الى مذاهب الصلبان الاربعة ومن سيتربع على عرش
فاتيكان – بعبدا ، سطوحنا تدلف ومزاريبهم تتدفق ولبنان عطش الى ادنى قطرة من
المسؤولية الاخلاقية والانسانية .اربعون عاما ولا يزال الاربعون حرامي في العز
والجاه والعنفوان ، يصولون يجولون ويحاضرون في الوطنية والديمقراطية والقومية
والشمولية والعولمة والى كل ما تطال ايديهم وينطق لسانهم وتريده غيرتهم .
بعد اربعين عاما ، لن اذهب بعيدا في المساءلة والمقاربة والتفسير واخذ العبر
وسؤال من يدري او يعلم او درس ، لن اذهب لأحد بل سأعود الى نفسي ، الى ذاتي لأسأل
بصدق واجاوب بصدق اكثر ، نعم بصدق لأنني سأحاور اولادي الذين كبروا وتعلموا
وادركوا وآن لهم ان يعلموا الحقيقة والوقائع بكل موضوعية وشفافية . اعود الى نفسي
لأني شاركت منذ البداية منذ البوسطة الاولى عام 1969 الى بوسطة عام 2000 والطريق
سالكة والبوسطات بانتظار الدور والضوء الاخضر .
يا بني
الثالث من كانون اول عام 1969 ، انطلقت بوسطة اتفاق القاهرة لتشق طريقها
باتجاه الجنوب وكانت محطتها شرق نهر الحاصباني ونزل ركابها الابطال من ابي الهول
وابي الجماجم الى ابي الغضب وابي عمار وابي الدمار ، نزل ركابها لاستراحة قصيرة
ليتابعوا السير باتجاه المطلة وصفد وحيفا ، ولكن البوسطة بنشرت ولم تعد تستطيع
السير ووجب تغيير الدواليب ، والى حين انتهاء ورشة التصليح دفعنا ثمن " لبنان
قوته في ضعفه" ، ودفعنا ثمن العروبة والقومية والصمود والتصدي واللاءات
الثلاث لزعماء الخرطوم ، وانا دفعت ثمن البقاء والتمسك بالأرض من دم وعرق واهانات
وذل وصبر.
الثالث عشر من نيسان عام 1975 ، انطلقت بوسطة ثانية بموديل احدث من سابقتها
ولكنها من نفس المصنع ومن ذات الايادي المهرة ، انطلقت من مرآب ابو عمار من منطقة
تل الزعتر وكانت محطتها الاخيرة في عين الرمانة حيث نشب ما نعرفه جميعا ، وانا كنت
في صيدا اقاتل بصفتي طالب احتياط في الجيش اللبناني ، اقاتل نفس من قاتلتهم عام
1969 ، وندفع الثمن ثانية ، ثمن التقاعس السني وعدم انتمائه الى وطن نهائي وثمن
المارونية السياسية التي احتفظت لنفسها بالإقطاع السياسي والانماء غير المتوازن ،
وانا نفسي ثانية في خضم حرب لا افهمها ولا أعي بعدها السياسي ولا الايديولوجي بل
اخوضها لأنني أحب لبنان وفقط لبنان .
الثلاثون من ايار عام
1976 دخلت بوسطة الاخوة المخلصة ودخلت معها تمنيات الاخوة العرب لهذا الوطن
بالعزة والمنعة والخلاص ، وسارت هذه المركبة على طرقات لبنان لا من حسيب ولا من رقيب
، حتى باتت الوسيلة الاولى والوحيدة لنقل الساسة واصحاب الهمم العالية ، من لبنانيين
وعرب واجانب ، ولكل من رغب في الدخول الى الجنة اللبنانية . نعم وبقيت هذه البوسطة
الى ان اصبح بقاؤها عبئا على سائقها ، فرحلت بعد تسعة وعشرين عاما من الخدمة في نقل
المساجين والمفقودين ، والمستشهدين والاستشهاديين والقتلة والبريئين ، والسارقين والمسروقين
واللاعبين والمتفرجين وكل انواع البشرمن اليسار ومن اليمين .اللهم صبرنا والله مع الصابرين
.
السابع من تشرين أول عام 1976 ، توقفت بوسطة الدولة اللبنانية نهائيا ونزل
جميع ركابها واخذ كل منهم مساره وانطلق ، وانا انطلقت الى مسار مجهول في مقلب آخر
وبعيد كل البعد عن كل ما تعلمته وادركته وتربيت عليه ، انطلقت الى حيث أرادني من
بقي من بقايا الشرعية اللبنانية التي أجلُّ وأحترم وأطيع ، وخضت الحرب من جديد ضد
العدو ذاته ولكن بحليف مختلف (اسرائيل) .
نعم يا بني
السادس من حزيران عام 1982 ،انطلقت بوسطة اخرى بحلة جديدة وماركة جديدة
وهذه المرة من صناعة غربية ، هللّ لها القاصي والداني وزغردت النسوة في جبل عامل
ورُشّ الورد ونُثرت الزهور والارز ، وأُستُقبل الجيش الاسرائيلي استقبال الفاتحين
والمخلصين من ظلم ابو عمار وزمرته ( ربما نسي البعض هذه المسرحية الشيعية ) .نعم
بعد هذا الاجتياح ركب من ركب ونزل من نزل ، والسائقون ينادون ولا من يسمع حتى
انتهاء العمل في اتفاق 17 ايار ، وللأسف لم يقرأه احد ولم يناقشه أحد وطويت صفحة
كانت حتما ستغير من مجرى التاريخ اللبناني ، ونحن من تحت الدلفة لتحت المزراب ، نتابع
ما سبق في الجنوب وفي بيروت وفي الجبل ، وانا بانتظار بوسطة اخرى علّها تقلني وتقل
الجميع الى محطة امان وسلام وهدوء .
الخامس والعشرون من شهر ايار عام 2000 ، محطة مصيرية ومفصلية قادت الوطن
الى نفق التبعية والخروج فيه من الكيان الى الملحق ومن الوطن الى المخيّم ، محطة
من تحت دلفة الاحتلال الاسرائيلي كما يقولون الى مزراب الاحتلال الايراني كما
يقولون ايضا ، ناهيك عن بوسطة التطرف التي لا لون لها ولا ماركة ، سائقها اعمى
وركابها بكمْ ، ونحن بعكس السير دائما ، وانا بانتظار بوسطة اخرى ايضا للعبور الى
ما تبقى من حلم الجمهورية .
الرابع عشر من شباط عام 2005 شاءت الظروف ان تنتفض بلبنان وتعلن قيام
الجمهورية الجديدة وانطلقت بوسطة الحرية بعد سنوات من الاحتلال والهيمنة والتبعية
، ولكن الركاب لم يرحموها ولم يداروا قوة تحملها فمشت ببطء وبشكل متقطع الى ان
وقفت نهائيا على حافة الامل والرجاء ، وضاعت الجمهورية بين من احبها واحبها اكثر
ومن احبها اكثر واكثر وتمزقت الاحلام .
اولادي الاحباء
محطات كثيرة على درب هذا الوطن المثقل بالبوسطات الغريبة ، محطات مميتة
ومقيتة واللبناني يدفع للصعود وما يلبث ان يدفع ثانية للنزول ، ومع وعورة الطرقات
وندرة البوسطات الجيدة لا يزال هذا الكيان ينتظر وسيلة صالحة لتنشله من الضياع
ولكن:
هل تعلمنا شيئا؟
هل اتعظنا من كل ما مر بنا ؟
ربما اتكلم نيابة عن جيل كامل عاش الحرب بل عاش الحروب على أرض لبنان ،
ربما نتفق على شيء واحد وهو عدم العودة الى الحرب ولكن هل الآخرون متفقون معنا على
ذلك؟ وماذا نقول اذا كان البعض الآخر يجرنا الى الزواريب ثانية ؟
يا بني
مهما جارت الظروف وساءت الايام
لا للحرب
لا للتعصب المذهبي
لا للاحزاب
يا بني
مهما جارت الظروف وساءت الايام
لا للحرب
لا للتعصب المذهبي
لا للاحزاب
نعم وبعد اربعين عاما من تجاربي ،وبعد نجاحي بالعبور من فشل الى آخر ، وبعد
فشلي بإحراز نجاح واحد ، في وطن النجاح فيه خيبة والفشل فيه غيبة ، وحتى لا ينجرّ
اولادي من بعدي من تحت الدلفة لتحت المزراب ، أترك لهم حرية الحُكمِ والخيار ....... والقرار .