السبت، 24 أكتوبر 2015

الاخوث الحكيم


الجميع في عجلة من امرهم ، يسابقون الزمن ويواجهون ضغط هذا الحدث الكبير ،                                      
وعلى غير عادتهم فقد اخذت السرعة منهم دقة التصرف ، واصبح الامساك في زمام الامور من مستحيلات هذا المجتمع الهادئ البسيط .
انها قرية صغيرة تناثرت اسطحها على جوانب هضبة تعلقت كأرجوحة بين جبالٍ اخذ منها الصخرُ عرينا والسنديانُ مسرحا ، قرية نعمت بعطاء الخالق فعاشت على القناعة بنعمِ منْ انعم . يعيشون حاجة يومهم ويأملون بيومٍ لا حاجة فيه لاحد ، وقفَ العلم عند حدود بيدرهم ، وتوقف دوران الارض امام سبيل الماء ، فمن ارتوى منهم كأنه اجتاز القحط والمحل ، ومن حظي بالقليل وكأنه عاد من سفر" برْ لك " ، (وهي تعني سفر بالبر لك وهي كلمة كانت تقال للذين يؤخذون للخدمة الاجبارية ايام الحكم التركي الى منطقة البلقان ) .اذكياء لدرجة انَّ الذكاء تخطاهم الى الحماقة ، فلا فرق بين ساذج وغبي الا بلباس فصل التعارف وامسيات الحوار .

فرحٌ انتظرته القرية واستعدت له الجيرة والاقارب ، ألسنة النار تعلو والدخان يملأ المكان ورائحة الطعام تسيل اللعاب ، وانغام الناي والمجوز تأسر القلوب وتُدمِعُ العيونَ لشوقٍ وحنينٍ واملٍ ودعاء .انه عرس طال انتظاره وتكلم عنه القاصي والداني ،وانتشر خبره الى ابعد ما وصل اليه الصوت والصدى ، وكيف لا وهو العرس الذي سيجمع بين الحارتين المتنافستين والمختلفتين منذ عقود طويلة ، تارة على الماء وتارة على البيدر وتارة اخرى على السهل والمعبور ، خلاف توارثه الآباء عن الاجداد وهكذا أنزلقت الازمة عبر اجيال لا تعرف السبب ولا تعرف المخرج ولا تعرف سوى البعد والكراهية والتحدي والانفعال .

قدمتْ الفرسُ بحلتها البهية وزينتها التي لا تنافسها طلّة ولا هيبة ولا وقار ، وقعُ حوافرها نغمة الايقاع ، وصوت صدرها راحة سداد الدين العسير ، لبست شالا متدليا يتماوج مع مشيتها ، وطرحة تضاهي العروس جمالا بطرحتها وكأنها هي العروس والعروس جارية عابرة .

هدأ الجميع واستعدوا لرحلة الزفاف التقليدية انطلاقا من بيت العريس مرورا بأزقة القرية وممراتها الضيقة وصولا الى بيت العروس في الحارة المقابلة وسط الزغاريد ورش الارز والملبس . اعتلت العروس الفرس بعد السلام والكلام وحسن النوايا وتصافح الايدي وجلاء النوايا والظنون وغادرت بيت اهلها بدموع الفرح وتمني التوفيق المستديم بسنين خير وبركة وسعادة . كان الموكب يتوقف عند كل بيت تقريبا لتناول المشروب والماء والحلوى وسماع البركات والدعاء وبعض اصوات الغناء القروي ورقصات الدبكة وايقاعات الطبلة والدف . كل القرية مشاركة وبعض المدعوين من القرى المجاورة والفرحة العارمة تنشر ابتساماتها على كل شفة ووجه ، ووصل الموكب بيت العريس باستقبال رقصة السيف والترس والحدا والتصفيق وابى والد العريس الا ان تدخل العروس الدار على الفرس . صمتٌ رهيبٌ وسكون ما قبل العاصفة، ماذا هناك وما الذي جرى ؟ لا تستطيع الفرس الدخول لان رأس العروس سيرتطم بالعتبة. علت الاصوات وكثرت الاقتراحات وتجمهر فريق هنا وفريق هناك واستدعي اهل الحكمة والخبرة والمشورة ، منهم من رأى بهد عتبة البيت وازالتها ومنهم من رأى بقطع قوائم الفرس ومنهم من رأى بقطع رأس العروس ، ودار الجدل واشتدت الالفاظ واخذت الامور منحى خطيرا في التطاول على المقامات واصحاب الرايات والعباءات وأعادت الى الاذهان ازمات الايام العابرة  وسوء دبار القدماء وخصومة الاجداد . وسط هذا الازدحام القلق تقدم احدهم رافعا يده يريد الكلام واعطاء المشورة ولكنه سرعان ما جوبه بالرفض الشديد وكيف لا وهو من اصحاب السوابق في الجنون والخوث وسوء التصرف كما يقولون ، نعم كيف يقبلون برأي مجنون وهم اصحاب الفقه والصواب ، واستمر العبث بالآراء وطرح الافكار وسن القرارات ، وتقدم هذا الرجل ثانية وطلب اعطاؤه برهة ليحل المشكلة ولسوء الحظ كما في المرة السابقة طُرد وأُهين الى ان دنا احد الوجهاء وقال : لنسمع ما لديه ....

تقدم الجنون كما يدعون وقال : انا احل المشكلة

قالوا له : كلنا آذان صاغية

تقدم من العروس وهمس بأذنها وقال لها : انحني قليلا يا ابنتي ، وهكذا انحنت العروس ومرت الفرس الى داخل الدار وعلا التصفيق والهتاف والتعجب بمقدرة هذا الرجل العادي البسيط وانتهت المشكلة فلا قطع رأس العروس ولا ارجل الفرس ولا هُدّت عتبة البيت . حمل الناس هذا الرجل على اكتافهم واتخذوه عاقل القرية وحلال مشاكلها واصبح الحكيم والفقيه وصاحب الرأي والمشورة .

اخي القارئ

متى سيأتي اخوث ويقول : لننحني قليلا وستمر كل القضايا دون هد وكسر وتقطيع

متى سنحظى بمجنون يجيد فقه الكلام وحكمة القرار وصدق النوايا ؟

نعم اخي القارئ ، لقد ضقنا ذرعا بأساليب الكر والفر التي لا تجدي سوى المزيد من التباعد والكره والنفور

نعم لنطرح الامور ببساطتها امام هؤلاء الذين يدعون انهم اهل الرأي والمشورة : مع فائق الاحترام والتقدير للشعب الفلسطيني وللقيادة الفلسطينية اقول ان لا قيامة للدولة الفلسطينية دون القبول الاسرائيلي اي ان الدولة العتيدة هي صناعة اسرائيلية لا غير . ونقول ايضا للقيادة الإسرائيلية : لن يهنئ لكم عيش ولا مستقبل ولا ازدهار ولا سلام دون قيام الدولة الفلسطينية ، ولن يمكنكم العيش ابدا الا مع الشعب الفلسطيني جيرانا وشركاء واصحاب مصير واحد ، تتنفسون نفس الهواء وتشربون نفس المياه .

صديقي القارئ

ليتنازل كل من مكانه ولتلتقي الايادي بالمصافحة الحقيقية ، لننبذ التطرف لأنه السبب بكل عنف وكراهية ، نعم التطرف بكل شيء حتى بحب الله عز وجل . اطرح بكل موضوعية ودون انحياز والرجاء عدم الانجرار وراء ال" نحن" ، فالله دعانا الى الالفة والمحبة والتسامح وهو العليم بكل ما نفكر ، فلا التقوى الزائدة بالصلاة الزائدة ، ولا اكتساب الآخرة بتقبيل العتبات صبح ومساء ، ولا قبول رضا الانبياء والمرسلين بكره ولعنة الآخرين ، ولا الوصول الى الهيكل يرضي موسى النبي ولا العبث بالمشاعر مفتاح التسلط والسيطرة .

ايها الناس، لقد قضى الله تعالى بقرب المقدسات لاقتراب الناس من بعضها البعض ، ولانتقال عدوى الايمان والخشوع ، ولنشر ظاهرة العيش المشترك وقبول الآخر ، لا للصد والكفر فالإيمان بالله واحد ، والايمان بالآخرة واحد ، والايمان بيوم القيامة واحد ، فلماذا السعي للتفرقة ولماذا الركض وراء شهوات رفضها الله ورسوله ونبيه ومصطفاه ، ولماذا الخروج عن ما رسمه لنا القرآن والتوراة والانجيل وسائر الكتب المقدسة .

اخي ايها المسلم ، لربما الانحناء قليلا تحت عتبة الخوف من الله لجهد مشكور ، وانت اخي اليهودي لربما الانحناء قليلا تحت عتبة مزامير داوود واسحق لسعي مشكور ايضا ، ولربما القبول بتهمة الجنون من اجل خلاص الامة لهو شيء مقدس ويرضي الله والجميع .

على امل ان يأتي الاخوث بحلول العقلاء نحن بانتظار زفاف آخر لا عتبة فيه ولا فرس بل عروس للسلام تكون مسك ختام المآسي وليالي الظلام .

الخميس، 15 أكتوبر 2015

القصر ما بين القهر والصهر


استيقظ باكرا ولبس ثيابه وتأنق على غير عادته ، ارتشف القهوة على مهل وتذوق بها كل نسمة صباحية عبرت تلك الشرفة المطلة على البحر ، وعاد الى سنوات خلت واستحضر لذاته كل لحظة مرّت عليه قبل خمسة وعشرون عاما . نعم لقد كنت هنا يا صغيري ، وكنا رفاقا واخوة نحاول ان نحمي هذا الصرح الوطني الكبير وهذا الرمز الاخير من رموز الحرية والكرامة والاستقلال . نعم يا صغيري ، كنا حفنة من المؤمنين بتلك البزة الخضراء التي رُسمت عل اجسادنا والتصقت بنا اكثر من الاسماء ، قبل سنوات كان الحلم وتبدد ولا نزال نحلم بعودة ذلك الحلم ، ايمكن ان يعود في زمانك يا صغيري؟

امسك سمعان بيد حفيده الصغير بعد ان حمّله علما لبنانيا وقبعة تعلوها الارزة ، ومشى الاثنان معا بكل فخر واعتزاز وشموخ ، وكيف لا وهما سائران لأحياء ذكرى الابطال الذين استشهدوا على درب هذا القصر ضد الهجوم السوري على معقل الشرعية اللبنانية ، ولتذكر ما مرّ على هذا الوطن من الاشقاء والاقرباء والاصدقاء الذين ما ادخروا جهدا ابدا في اضعاف وارهاق وتفتيت وتمزيق هذا الوطن .

الحشود تأتي من كل مكان والهتاف يعلو ويعلو وتلوح بالأفق شعارات وكتابات ليست مفهومة لبعدها عن سمعان ولكنه بدأ يميز بعض الاصوات الهاتفة لهذا او ذاك وكالعادة اللبنانية في كل مناسبة تقوم الحناجر بنبش المفردات الملائمة وتفصيل القواعد العربية على الاجسام العربية والغربية والمرّيخية ايضا ، فنحن شعب لبّيس وخزّيق يلائمُ ما فُصّلَ له بالسرعة القياسية .

اكتظت الطرقات واشتد الازدحام فخاف سمعان على حفيده من التدافع فقرر الانزواء على مرتفع قريب يشاهد كل ما لم يستطع مشاهدته من قبل ، وهكذا  حطّ رحاله تحت شجرة عالية نسبيا وبدأ بقراءة ما يشاهد ، ويفهم ما يسمع ، ويدرك اين هو ويعي الى اين وصل .

الثالث عشر من تشرين اول ، ذكرى سقوط القصر الجمهوري بيد الجيش السوري وبعض وحدات الجيش اللبناني الموالية للنظام السوري . قصة طويلة ومعقدة ولا مجال لتوضيحها ، هكذا تكلم سمعان مع حفيده ووعده بشرح وافٍ ومستفيض عنها في يوم من الايام ولكن الآن والمهم هو ان نحتفل بهذه الذكرى حسب مكانتها ووفق معاييرها وعلى مستوى قيمتها التاريخية والوطنية والمعنوية . كلمات ادارت وجه الحفيد الى مجموعة من الشبان تصفق وتهتف وترقص وهذا ما اراح الصبي الصغير من عصر دماغه بترهات القصة اللبنانية .

بدأت الصورة تتضح شيئا فشيئا وبدت علامات الغضب تعلو جبهة سمعان ، ولم يعد الهواء يكفي التنفس لتنفيس الاحتقان واخذ يتساءل : ما الذي يدور ؟ ماذا يحصل ؟ ما هذه الشعارات التي لا تمس الى الذكرى بصلة ؟ نعم هذا هو الواقع اللبناني وهذا هو الطبع اللبناني  وربما هذه هي الحرية اللبنانية التي لا تشبه الا سواها ، كلمات تمتم بها سمعان علّه يطفئ ناره وراح يلاعب حفيده مبتعدا عن اجواء لم يرغب بها ولن يرغب بها ابدا . ربما كبرنا  واصبحنا نجهل واقعنا وربما هذا الجيل ادرى منا بمصلحة الوطن ، شفاه سمعان تطلق العنان لمبررات واعذار محاولا طرد اليأس وندم القدوم وقال : سأنتظر العماد عون ليلقي كلمته وحتما سيفرّح قلبي " ويفش خلقي" .

"تمخض الجبل وولد فأرا" ، مسكين سمعان ! كم خاب ظنه وكُسر خاطره ، كم انهكه الكلام المبتذل ورشق الجمل المركبة ، حاول الصمود ولم يفلح ، حاول الانتظار ولم تُفرج ، حاول البقاء فمنعته كرامته واجبره كبرياؤه على المغادرة المشرّفة وقال : لأكون اول المغادرين ولا آخر الخائبين ، وحمل حفيده على كتفيه وقفل عائدا الى حيث اتى مرنما حداء مكسوري الخاطر :

تيتي ،،تيتي ،،،، مثل ما رحتي ،، مثل ما ،،جيتي

اخي القارئ

آلاف المشاركين مثلهم مثل سمعان خائبو الظن بما رأوه وسمعوه ولمسوه وشعروا به ، فأين الحقيقة التي كانت محور القدوم ، وأين الامل الذي كان يسوق المنهكين والمتعبين الى حافة النهوض من جديد ، ولماذا هذا التحريف وهذا الرياء وهذا التلاعب بالعقول والوجدان والضمير .

الثالث عشر من تشرين اول ، ذكرى سقوط الدم اللبناني على يد الشقيق في اعرق مكان في الجمهورية اللبنانية ، الا وهو القصر الجمهوري ،

الثالث عشر من تشرين اول، ذكرى اتحاد العرب والافرنج ، القريب والبعيد ، العدو والصديق ، اتحادهم على نحر الوطن وتلزيمه لمقاول لا يعرف الا الربح والربح ولو من بيع الجماجم والعظام .

الثالث عشر من تشرين اول ، ذكرى الذين خطفوا وذبحوا وقبعوا في السجون السورية اعواما طويلة دون المطالبة بهم حتى من رؤسائهم وقادتهم ، وكأنهم لم يكونوا .

لا ادري بماذا اراد الجنرال عون ان يحتفل ،

بمغادرته "مرغما " الى الخارج ونجاته من براثن السوري ؟

ام احتفاله هذا بسقوط القصر الذي كان مؤتمنا عليه ؟

ام احتفاله هذا باسترجاع ما كان يحلم به ورؤية الجماهير اللبنانية تهتف له من جديد كما فعلت قبل عقود طويلة ؟

ربما جاء ليجدد شبابه واحلامه وطموحاته وليتذكر جلسات القصر وامسياته ، على جثث من آمن به ومشى خلفه فغدره مرتين : الاولى بالهروب السريع والثانية بالتحالف السريع مع اهم ركائز النظام الذي انهك اللبنانيين واحتلهم وسلبهم وانتهك حرمتهم ودنس قيمهم هذا النظام البعثي السافل الذي اورث التركة لحزب الله ليمعن بإذلال اللبنانيين اكثر وتقسيمهم حسب الولاء والانتماء لمن يؤمن به اولا واخيرا فقيها على رأس ما تبقى من الركام اللبناني .

مسكين سمعان

لم يسمع كلمة واحدة عن الجنود والضباط الذين استشهدوا، ولا عن الذين خطفوا ولا يزالون في عداد المفقودين.

لم يسمع سمعان كلمة واحدة عن اللبنانيين المعذبين بالسجون السورية ولا حتى كلمة مؤازرة لذويهم ولا كلمة عتاب لحليف السجّان .

لم يسمع سمعان كلمة واحدة عن حقيقة التغيير الذي وُعد به .

لم يسمع سمعان كلمة واحدة الا اتهام الغير بالفساد وهم على رأس المفسدين .

لم يسمع سمعان الا كلمة واحدة : يا شعب لبنان العظيم ، كلمة رددها الجنرال منذ عقود ولا تزال عظَمَة هذا الشعب رهينة اهواء ورغبات الجاه والسلطة والنفوذ ولو على كرسي يهتز لكل زكام محلي او عابر او مستورد .

مسكين سمعان

لم يعرف سمعان لماذا يحتفل العماد وبماذا يحتفل ، ولكن الغصة تكبر وتكبر مع هؤلاء القوم الذين اتوا ،

بالله عليكم ليقل لي احد بماذا احتفل هذا الجمهور " العوني " ؟

بعودة الرئيس الروسي " بوتين " الى الساحة العربية عبر سوريا ؟

ام بصمود الرئيس السوري فوق اكتاف الروس والايرانيين واللبنانيين والافغان والكوبيّين ؟

ام بصمود ورقة التفاهم مع حزب الله رغم الاعاصير والصعوبات التي اعترضت هضمها ؟

بماذا احتفل جمهور التيار الحر ؟

بنغصة الجنرال بتولي كرسي الرئاسة ؟ ام بنغصة الجنرال بالتسبب بزعزعة مكانة صهره العميد وتلويث تقاعده المشرّف بزبالة السياسة الكريهة ؟

ام الاحتفال باستمرار فراغ الرمز اللبناني الاول وبقاء الكرسي شاغرا؟

لا اعرف بماذا يحلم هذا الجمهور بعد عشر سنوات من الخداع والمراوغة ، لا اعرف الطموح الذي ينشده ، وبكلمة اخرى :

 اما آن الاوان ايها الجمهور الحر ان تبدأ انت بالتغيير ؟

على امل ان تصحى ستبقى تُجرّ كل سنة على طريق القصر واقفا على الاطلال

قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل ......فقد اكتفينا على طريق القصر بهدلي