السبت، 24 أكتوبر 2015

الاخوث الحكيم


الجميع في عجلة من امرهم ، يسابقون الزمن ويواجهون ضغط هذا الحدث الكبير ،                                      
وعلى غير عادتهم فقد اخذت السرعة منهم دقة التصرف ، واصبح الامساك في زمام الامور من مستحيلات هذا المجتمع الهادئ البسيط .
انها قرية صغيرة تناثرت اسطحها على جوانب هضبة تعلقت كأرجوحة بين جبالٍ اخذ منها الصخرُ عرينا والسنديانُ مسرحا ، قرية نعمت بعطاء الخالق فعاشت على القناعة بنعمِ منْ انعم . يعيشون حاجة يومهم ويأملون بيومٍ لا حاجة فيه لاحد ، وقفَ العلم عند حدود بيدرهم ، وتوقف دوران الارض امام سبيل الماء ، فمن ارتوى منهم كأنه اجتاز القحط والمحل ، ومن حظي بالقليل وكأنه عاد من سفر" برْ لك " ، (وهي تعني سفر بالبر لك وهي كلمة كانت تقال للذين يؤخذون للخدمة الاجبارية ايام الحكم التركي الى منطقة البلقان ) .اذكياء لدرجة انَّ الذكاء تخطاهم الى الحماقة ، فلا فرق بين ساذج وغبي الا بلباس فصل التعارف وامسيات الحوار .

فرحٌ انتظرته القرية واستعدت له الجيرة والاقارب ، ألسنة النار تعلو والدخان يملأ المكان ورائحة الطعام تسيل اللعاب ، وانغام الناي والمجوز تأسر القلوب وتُدمِعُ العيونَ لشوقٍ وحنينٍ واملٍ ودعاء .انه عرس طال انتظاره وتكلم عنه القاصي والداني ،وانتشر خبره الى ابعد ما وصل اليه الصوت والصدى ، وكيف لا وهو العرس الذي سيجمع بين الحارتين المتنافستين والمختلفتين منذ عقود طويلة ، تارة على الماء وتارة على البيدر وتارة اخرى على السهل والمعبور ، خلاف توارثه الآباء عن الاجداد وهكذا أنزلقت الازمة عبر اجيال لا تعرف السبب ولا تعرف المخرج ولا تعرف سوى البعد والكراهية والتحدي والانفعال .

قدمتْ الفرسُ بحلتها البهية وزينتها التي لا تنافسها طلّة ولا هيبة ولا وقار ، وقعُ حوافرها نغمة الايقاع ، وصوت صدرها راحة سداد الدين العسير ، لبست شالا متدليا يتماوج مع مشيتها ، وطرحة تضاهي العروس جمالا بطرحتها وكأنها هي العروس والعروس جارية عابرة .

هدأ الجميع واستعدوا لرحلة الزفاف التقليدية انطلاقا من بيت العريس مرورا بأزقة القرية وممراتها الضيقة وصولا الى بيت العروس في الحارة المقابلة وسط الزغاريد ورش الارز والملبس . اعتلت العروس الفرس بعد السلام والكلام وحسن النوايا وتصافح الايدي وجلاء النوايا والظنون وغادرت بيت اهلها بدموع الفرح وتمني التوفيق المستديم بسنين خير وبركة وسعادة . كان الموكب يتوقف عند كل بيت تقريبا لتناول المشروب والماء والحلوى وسماع البركات والدعاء وبعض اصوات الغناء القروي ورقصات الدبكة وايقاعات الطبلة والدف . كل القرية مشاركة وبعض المدعوين من القرى المجاورة والفرحة العارمة تنشر ابتساماتها على كل شفة ووجه ، ووصل الموكب بيت العريس باستقبال رقصة السيف والترس والحدا والتصفيق وابى والد العريس الا ان تدخل العروس الدار على الفرس . صمتٌ رهيبٌ وسكون ما قبل العاصفة، ماذا هناك وما الذي جرى ؟ لا تستطيع الفرس الدخول لان رأس العروس سيرتطم بالعتبة. علت الاصوات وكثرت الاقتراحات وتجمهر فريق هنا وفريق هناك واستدعي اهل الحكمة والخبرة والمشورة ، منهم من رأى بهد عتبة البيت وازالتها ومنهم من رأى بقطع قوائم الفرس ومنهم من رأى بقطع رأس العروس ، ودار الجدل واشتدت الالفاظ واخذت الامور منحى خطيرا في التطاول على المقامات واصحاب الرايات والعباءات وأعادت الى الاذهان ازمات الايام العابرة  وسوء دبار القدماء وخصومة الاجداد . وسط هذا الازدحام القلق تقدم احدهم رافعا يده يريد الكلام واعطاء المشورة ولكنه سرعان ما جوبه بالرفض الشديد وكيف لا وهو من اصحاب السوابق في الجنون والخوث وسوء التصرف كما يقولون ، نعم كيف يقبلون برأي مجنون وهم اصحاب الفقه والصواب ، واستمر العبث بالآراء وطرح الافكار وسن القرارات ، وتقدم هذا الرجل ثانية وطلب اعطاؤه برهة ليحل المشكلة ولسوء الحظ كما في المرة السابقة طُرد وأُهين الى ان دنا احد الوجهاء وقال : لنسمع ما لديه ....

تقدم الجنون كما يدعون وقال : انا احل المشكلة

قالوا له : كلنا آذان صاغية

تقدم من العروس وهمس بأذنها وقال لها : انحني قليلا يا ابنتي ، وهكذا انحنت العروس ومرت الفرس الى داخل الدار وعلا التصفيق والهتاف والتعجب بمقدرة هذا الرجل العادي البسيط وانتهت المشكلة فلا قطع رأس العروس ولا ارجل الفرس ولا هُدّت عتبة البيت . حمل الناس هذا الرجل على اكتافهم واتخذوه عاقل القرية وحلال مشاكلها واصبح الحكيم والفقيه وصاحب الرأي والمشورة .

اخي القارئ

متى سيأتي اخوث ويقول : لننحني قليلا وستمر كل القضايا دون هد وكسر وتقطيع

متى سنحظى بمجنون يجيد فقه الكلام وحكمة القرار وصدق النوايا ؟

نعم اخي القارئ ، لقد ضقنا ذرعا بأساليب الكر والفر التي لا تجدي سوى المزيد من التباعد والكره والنفور

نعم لنطرح الامور ببساطتها امام هؤلاء الذين يدعون انهم اهل الرأي والمشورة : مع فائق الاحترام والتقدير للشعب الفلسطيني وللقيادة الفلسطينية اقول ان لا قيامة للدولة الفلسطينية دون القبول الاسرائيلي اي ان الدولة العتيدة هي صناعة اسرائيلية لا غير . ونقول ايضا للقيادة الإسرائيلية : لن يهنئ لكم عيش ولا مستقبل ولا ازدهار ولا سلام دون قيام الدولة الفلسطينية ، ولن يمكنكم العيش ابدا الا مع الشعب الفلسطيني جيرانا وشركاء واصحاب مصير واحد ، تتنفسون نفس الهواء وتشربون نفس المياه .

صديقي القارئ

ليتنازل كل من مكانه ولتلتقي الايادي بالمصافحة الحقيقية ، لننبذ التطرف لأنه السبب بكل عنف وكراهية ، نعم التطرف بكل شيء حتى بحب الله عز وجل . اطرح بكل موضوعية ودون انحياز والرجاء عدم الانجرار وراء ال" نحن" ، فالله دعانا الى الالفة والمحبة والتسامح وهو العليم بكل ما نفكر ، فلا التقوى الزائدة بالصلاة الزائدة ، ولا اكتساب الآخرة بتقبيل العتبات صبح ومساء ، ولا قبول رضا الانبياء والمرسلين بكره ولعنة الآخرين ، ولا الوصول الى الهيكل يرضي موسى النبي ولا العبث بالمشاعر مفتاح التسلط والسيطرة .

ايها الناس، لقد قضى الله تعالى بقرب المقدسات لاقتراب الناس من بعضها البعض ، ولانتقال عدوى الايمان والخشوع ، ولنشر ظاهرة العيش المشترك وقبول الآخر ، لا للصد والكفر فالإيمان بالله واحد ، والايمان بالآخرة واحد ، والايمان بيوم القيامة واحد ، فلماذا السعي للتفرقة ولماذا الركض وراء شهوات رفضها الله ورسوله ونبيه ومصطفاه ، ولماذا الخروج عن ما رسمه لنا القرآن والتوراة والانجيل وسائر الكتب المقدسة .

اخي ايها المسلم ، لربما الانحناء قليلا تحت عتبة الخوف من الله لجهد مشكور ، وانت اخي اليهودي لربما الانحناء قليلا تحت عتبة مزامير داوود واسحق لسعي مشكور ايضا ، ولربما القبول بتهمة الجنون من اجل خلاص الامة لهو شيء مقدس ويرضي الله والجميع .

على امل ان يأتي الاخوث بحلول العقلاء نحن بانتظار زفاف آخر لا عتبة فيه ولا فرس بل عروس للسلام تكون مسك ختام المآسي وليالي الظلام .

الخميس، 15 أكتوبر 2015

القصر ما بين القهر والصهر


استيقظ باكرا ولبس ثيابه وتأنق على غير عادته ، ارتشف القهوة على مهل وتذوق بها كل نسمة صباحية عبرت تلك الشرفة المطلة على البحر ، وعاد الى سنوات خلت واستحضر لذاته كل لحظة مرّت عليه قبل خمسة وعشرون عاما . نعم لقد كنت هنا يا صغيري ، وكنا رفاقا واخوة نحاول ان نحمي هذا الصرح الوطني الكبير وهذا الرمز الاخير من رموز الحرية والكرامة والاستقلال . نعم يا صغيري ، كنا حفنة من المؤمنين بتلك البزة الخضراء التي رُسمت عل اجسادنا والتصقت بنا اكثر من الاسماء ، قبل سنوات كان الحلم وتبدد ولا نزال نحلم بعودة ذلك الحلم ، ايمكن ان يعود في زمانك يا صغيري؟

امسك سمعان بيد حفيده الصغير بعد ان حمّله علما لبنانيا وقبعة تعلوها الارزة ، ومشى الاثنان معا بكل فخر واعتزاز وشموخ ، وكيف لا وهما سائران لأحياء ذكرى الابطال الذين استشهدوا على درب هذا القصر ضد الهجوم السوري على معقل الشرعية اللبنانية ، ولتذكر ما مرّ على هذا الوطن من الاشقاء والاقرباء والاصدقاء الذين ما ادخروا جهدا ابدا في اضعاف وارهاق وتفتيت وتمزيق هذا الوطن .

الحشود تأتي من كل مكان والهتاف يعلو ويعلو وتلوح بالأفق شعارات وكتابات ليست مفهومة لبعدها عن سمعان ولكنه بدأ يميز بعض الاصوات الهاتفة لهذا او ذاك وكالعادة اللبنانية في كل مناسبة تقوم الحناجر بنبش المفردات الملائمة وتفصيل القواعد العربية على الاجسام العربية والغربية والمرّيخية ايضا ، فنحن شعب لبّيس وخزّيق يلائمُ ما فُصّلَ له بالسرعة القياسية .

اكتظت الطرقات واشتد الازدحام فخاف سمعان على حفيده من التدافع فقرر الانزواء على مرتفع قريب يشاهد كل ما لم يستطع مشاهدته من قبل ، وهكذا  حطّ رحاله تحت شجرة عالية نسبيا وبدأ بقراءة ما يشاهد ، ويفهم ما يسمع ، ويدرك اين هو ويعي الى اين وصل .

الثالث عشر من تشرين اول ، ذكرى سقوط القصر الجمهوري بيد الجيش السوري وبعض وحدات الجيش اللبناني الموالية للنظام السوري . قصة طويلة ومعقدة ولا مجال لتوضيحها ، هكذا تكلم سمعان مع حفيده ووعده بشرح وافٍ ومستفيض عنها في يوم من الايام ولكن الآن والمهم هو ان نحتفل بهذه الذكرى حسب مكانتها ووفق معاييرها وعلى مستوى قيمتها التاريخية والوطنية والمعنوية . كلمات ادارت وجه الحفيد الى مجموعة من الشبان تصفق وتهتف وترقص وهذا ما اراح الصبي الصغير من عصر دماغه بترهات القصة اللبنانية .

بدأت الصورة تتضح شيئا فشيئا وبدت علامات الغضب تعلو جبهة سمعان ، ولم يعد الهواء يكفي التنفس لتنفيس الاحتقان واخذ يتساءل : ما الذي يدور ؟ ماذا يحصل ؟ ما هذه الشعارات التي لا تمس الى الذكرى بصلة ؟ نعم هذا هو الواقع اللبناني وهذا هو الطبع اللبناني  وربما هذه هي الحرية اللبنانية التي لا تشبه الا سواها ، كلمات تمتم بها سمعان علّه يطفئ ناره وراح يلاعب حفيده مبتعدا عن اجواء لم يرغب بها ولن يرغب بها ابدا . ربما كبرنا  واصبحنا نجهل واقعنا وربما هذا الجيل ادرى منا بمصلحة الوطن ، شفاه سمعان تطلق العنان لمبررات واعذار محاولا طرد اليأس وندم القدوم وقال : سأنتظر العماد عون ليلقي كلمته وحتما سيفرّح قلبي " ويفش خلقي" .

"تمخض الجبل وولد فأرا" ، مسكين سمعان ! كم خاب ظنه وكُسر خاطره ، كم انهكه الكلام المبتذل ورشق الجمل المركبة ، حاول الصمود ولم يفلح ، حاول الانتظار ولم تُفرج ، حاول البقاء فمنعته كرامته واجبره كبرياؤه على المغادرة المشرّفة وقال : لأكون اول المغادرين ولا آخر الخائبين ، وحمل حفيده على كتفيه وقفل عائدا الى حيث اتى مرنما حداء مكسوري الخاطر :

تيتي ،،تيتي ،،،، مثل ما رحتي ،، مثل ما ،،جيتي

اخي القارئ

آلاف المشاركين مثلهم مثل سمعان خائبو الظن بما رأوه وسمعوه ولمسوه وشعروا به ، فأين الحقيقة التي كانت محور القدوم ، وأين الامل الذي كان يسوق المنهكين والمتعبين الى حافة النهوض من جديد ، ولماذا هذا التحريف وهذا الرياء وهذا التلاعب بالعقول والوجدان والضمير .

الثالث عشر من تشرين اول ، ذكرى سقوط الدم اللبناني على يد الشقيق في اعرق مكان في الجمهورية اللبنانية ، الا وهو القصر الجمهوري ،

الثالث عشر من تشرين اول، ذكرى اتحاد العرب والافرنج ، القريب والبعيد ، العدو والصديق ، اتحادهم على نحر الوطن وتلزيمه لمقاول لا يعرف الا الربح والربح ولو من بيع الجماجم والعظام .

الثالث عشر من تشرين اول ، ذكرى الذين خطفوا وذبحوا وقبعوا في السجون السورية اعواما طويلة دون المطالبة بهم حتى من رؤسائهم وقادتهم ، وكأنهم لم يكونوا .

لا ادري بماذا اراد الجنرال عون ان يحتفل ،

بمغادرته "مرغما " الى الخارج ونجاته من براثن السوري ؟

ام احتفاله هذا بسقوط القصر الذي كان مؤتمنا عليه ؟

ام احتفاله هذا باسترجاع ما كان يحلم به ورؤية الجماهير اللبنانية تهتف له من جديد كما فعلت قبل عقود طويلة ؟

ربما جاء ليجدد شبابه واحلامه وطموحاته وليتذكر جلسات القصر وامسياته ، على جثث من آمن به ومشى خلفه فغدره مرتين : الاولى بالهروب السريع والثانية بالتحالف السريع مع اهم ركائز النظام الذي انهك اللبنانيين واحتلهم وسلبهم وانتهك حرمتهم ودنس قيمهم هذا النظام البعثي السافل الذي اورث التركة لحزب الله ليمعن بإذلال اللبنانيين اكثر وتقسيمهم حسب الولاء والانتماء لمن يؤمن به اولا واخيرا فقيها على رأس ما تبقى من الركام اللبناني .

مسكين سمعان

لم يسمع كلمة واحدة عن الجنود والضباط الذين استشهدوا، ولا عن الذين خطفوا ولا يزالون في عداد المفقودين.

لم يسمع سمعان كلمة واحدة عن اللبنانيين المعذبين بالسجون السورية ولا حتى كلمة مؤازرة لذويهم ولا كلمة عتاب لحليف السجّان .

لم يسمع سمعان كلمة واحدة عن حقيقة التغيير الذي وُعد به .

لم يسمع سمعان كلمة واحدة الا اتهام الغير بالفساد وهم على رأس المفسدين .

لم يسمع سمعان الا كلمة واحدة : يا شعب لبنان العظيم ، كلمة رددها الجنرال منذ عقود ولا تزال عظَمَة هذا الشعب رهينة اهواء ورغبات الجاه والسلطة والنفوذ ولو على كرسي يهتز لكل زكام محلي او عابر او مستورد .

مسكين سمعان

لم يعرف سمعان لماذا يحتفل العماد وبماذا يحتفل ، ولكن الغصة تكبر وتكبر مع هؤلاء القوم الذين اتوا ،

بالله عليكم ليقل لي احد بماذا احتفل هذا الجمهور " العوني " ؟

بعودة الرئيس الروسي " بوتين " الى الساحة العربية عبر سوريا ؟

ام بصمود الرئيس السوري فوق اكتاف الروس والايرانيين واللبنانيين والافغان والكوبيّين ؟

ام بصمود ورقة التفاهم مع حزب الله رغم الاعاصير والصعوبات التي اعترضت هضمها ؟

بماذا احتفل جمهور التيار الحر ؟

بنغصة الجنرال بتولي كرسي الرئاسة ؟ ام بنغصة الجنرال بالتسبب بزعزعة مكانة صهره العميد وتلويث تقاعده المشرّف بزبالة السياسة الكريهة ؟

ام الاحتفال باستمرار فراغ الرمز اللبناني الاول وبقاء الكرسي شاغرا؟

لا اعرف بماذا يحلم هذا الجمهور بعد عشر سنوات من الخداع والمراوغة ، لا اعرف الطموح الذي ينشده ، وبكلمة اخرى :

 اما آن الاوان ايها الجمهور الحر ان تبدأ انت بالتغيير ؟

على امل ان تصحى ستبقى تُجرّ كل سنة على طريق القصر واقفا على الاطلال

قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل ......فقد اكتفينا على طريق القصر بهدلي

 

الثلاثاء، 1 سبتمبر 2015

بينفشو وبيدفشو


يُحكى انه في زمن غاب عنه الزمن ، كان ملك ذو فطنة وحنكة فاقت توقعات أهل الذكاء كلهم ، وكان هذا الملك يملك من النكتة وحس الفكاهة أكثر ما يملك من بشر وحجر . راودته فكرة خلق شيء من لا شيء وجعل المستحيل ممكنا فوقع الخيار على وزيره الذي لا يترك مناسبة الا ويمدح الملك ولا يستثني شخصه بجملة أو بكلمة تثني عليه بمجرد قربه منه وخدمته وطاعته .

أمر الملك وزيره وقال له :

أريد منك أن تأتيني برجل فاشل وتعمل منه قائدا، وبغبي تجعله يصدق بأنه حكيم، وبجبان لا يشك بشجاعته، وبأميًّ يقارع الفلسفة، وبجاهل يسنّ القوانين، وبأحمق يصدق خبرته.

انحنى الوزير سمعا وطاعة وابلغ الملك بأن مطلبه سيلبى بغضون أيام قليلة . وهكذا وبعد مرور أسبوع فقط زفّ الوزير لسيده الخبر السار وقال له :

لبيك ،، لبيك ،،  ما طلبته بين يديك

تعجب الملك وقال لوزيره كيف فعلت ذلك ؟

أجاب الوزير: يا مولاي ! انها لعبة بسيطة ( نفشو ودفشو ) فيصدق ما هو عليه أو بالأحرى ما قصدنا أن يكون عليه .

قال الملك أوضح أيها الوزير

قال : أذا اتخذت من شخص ما عنوانا وبدأت في جعله محور الحركة وباب الحوار، ولن تقبل بغيره ممرا الى الجماعة ، بالرغم من كونه أعجز عن ادارة نفسه ، فسيصبح المرجع الاول والاخير وستنصّبه الجماعة قائدا أو ممثلا أو مرجعا ، وما عليه الا أن يصدق ما آلت اليه حاله وهكذا نحصل على قائد يطلق المراجل وينصح الفاشلين .

يا سيدي اذا أطريت على قول وجعلت منه حكمة وبالغت في الحديث عنه ،فسيصبح مثلا يُتبع وسيصدق صاحبه بلاغته ويسير في أحلامه ، وهكذا يصبح الغباء ذكاء والغبي حكيما .

وهكذا يا مولاي فاذا اجتمعت السلطة والمال مع غباء العامة فمن السهل صنع ما نريد ومن الاسهل تسويق ما كسد ، وأحياء ما فسد .

عزيزي القارئ

يقال بان الطاووس ينفش ريشه ليتباهى أمام انسبائه وخاصة أمام شريكته ، فينال أعجابها وأعجاب البشر ونخشع نحن أمام عظمة الخالق وحكمته ، أمّا بالمصيبة التي حلت بنا في لبنان فإننا نقف بحيرة وتشكيك تارة واستهتار وسخرية تارة اخرى بالذي وصل اليه حال التباهي واستعراض العظمة وبالتالي قضية نفش البعض للبعض وتركه عرضة للعض والوعظ .

ما بال الناس في التعامل المعيب مع وتيرة تقديس وتعظيم اذا لم نقل تأليه الشخصية (الهية) ، وكأننا عدنا الى عصر المعجزات لحث الناس على الايمان والتقوى .نعم  وفي خضم هذه المعاناة تخرج جحافل السياسيين عندنا لتستأثر بقليل العامة التي بقيت على حالها مريضة عليلة سقيمة المبادئ جاهلة الاهداف ، هياكل من بشر تأكل وتشرب وتنام ،،،، وتبصم .

أخي القارئ

نعم وسط هذا الاضطراب الذي يلفنا ، ووسط هذه التناقضات التي يعيشها الشرق برمته ، أصبحت الطائفة مصدر قلق بقدر ما هي مصدر أمان واطمئنان . أصبحت الطائفة سيفا ذو حدين والاسلم منهما هو تطرف واذ بنا امام معضلة الخيار وحيرة الاختيار ، والثمن مدفوع في الحالتين تهجير وهجرة ، قتل ودمار ، والعامة كما هي حقل تجارب ومختبر شعارات .

وسط هذا كله يأتي احدهم وينفش بريشه ويتطاول على الطاووس ويمشي الهوينة على أيقاع الطائفة والمذهب وينفخ البوق وتنتفخ الحنجرة وتنفجر الكلمات معلنة بدء معركة الصرف والاعراب ، فيتطاير الكرد واليزيد وتنهمر دموع المعابد والاديرة ويخبو صوت المآذن الا : من كل يصلي على قِبلته .

أخي

نُفشت الطائفة الدرزية في لبنان مع العلم بانها منتوفة بسوريا ، ودُفش ابن الجاهلية ليعلن التعبئة العامة وان نظام الاسد أسد ، فكانت النتيجة المرعبة في جبل السماق ولولا تدخل الاخت غير الشقيقة لكانت مجزرة حضر بمن حضر .

نعم نُفش العماد عون واُقنع على انه المخلص الوحيد للمسيحيين ( بالطبع بعد حزب الله) وان شراكته بالأبعاد الثلاثية كافية لبقاء الصليب فوق الشرق ، وأذ بنا نرى نتائج صولاته وجولاته فبعد كل خطاب ناري يطير دير في سوريا أو العراق ، وبعد كل ثناء على شراكته المقدسة ينزح المئات ويُشرد الالاف من أبناء الفاتيكان ، ويبقى القديم على قدمه : أنا أو لا أحد ، والنفش مستمر والدفش قادم والآتي أعظم وما على بكركي الا اعادة صياغة العهدين أو استحضار ذو القرنين .

نعم وأهل السنّة في حيرة من أمرهم ، أهمْ على سنّة الله ورسوله أم على سنّة الخليج وميوله؟ دققتم ناقوس الخطر من الشمال الى الجنوب ونفشتم بريش من لا يزال داخل البيضة حتى غرّد وشدا، وطار مع الاثير ووقع الاسير مطلوبا وليس أسيرا ، وخرج الرئيس غربا يدرس المستقبل وكيف سيُستقبل في حيرة بين الولاء والانتماء والهندام أوضح من الكلام ، وهكذا تسير الامة بالشكل والجوهر : محاربة أعداء الله بكَفَرَةِ الله ، والحث على الصمود من خارج الحدود .

نعم صديقي القارئ

ملائكة وطُهّر أنعم الله علينا بهم بعد شقاء الايمان وشحة التقوى ، أُنزِلوا من السماء بعد قسم اليمين بحضرة الخالق بانهم حراس العرش السرمدي وقضاة محكمة الآخرة ، وها هم نراهم يلبون نداء استغاثة البحرين واليمن وغزة والعراق، ويدخلون الى قلب المعادلة السورية بطلب من شقيقهم الاصغر لردع أبناء العم وأعادة ضبط العائلة . نحن الآمرون ونحن من يمسك بزمام الامور وكل من يحرك ساكنا سيسكن . نُفش الحزب وطارت عصافيره شرقا ولم تحسب للشمس حسابا ، فوقعت على قضبان الدبق ومن نجا سقط بنيران صديقة ، ليس مهما المهم أن تبقى الشقيقة وستحصل أم محمود على كامل حقوق "الشهيد" أبنها وعلى رأسها الرحمة .

وعجبا ، في ذكرى تغييب الامام موسى الصدر ورفيقيه يطل علينا دولة الرئيس بري مثبتا أقدامه على خطى المغيّب، ويرفض كل مهادنة وصفقة حتى تنجلي الحقيقة . بوركت دولة الرئيس وبوركت معك كل الجهود لكشف خبايا هذه المعضلة ولكن:

أليس كان من المستحسن وأكراما للحضور عدم ذكر سوريا الاسد؟

نعم معك في ذكر سوريا الوطن وسوريا الشعب ولكن الاسد اصبح حالة تثير الغضب والاشمئزاز وخاصة بعد كل تلك المجازر والاهوال التي أصابت هذا الشعب المسكين ، وأذكّر دولتك : لماذا تستثنون الاسد الاب من عملية تغييب الامام؟ أليس من الجائر أن يكون شريكا كامل العضوية في تلك المسألة ؟ فاذا كان الابن لا يعرف فحتما السيد عبدالحليم خدام يعرف ، والسيد فاروق الشرع يعرف ، والعماد حكمت الشهابي يعرف ، والعماد مصطفى طلاس يعرف ، وغيرهم الكثير من أصحاب الايادي البيضاء في النظام السوري ، نعم لنترك للآتي ما ينير لنا طريق المعرفة والرجاء كل الرجاء في الخروج من تبعية أهلكت أهلكم وأهلنا على السواء ، وكفى نفشا لريش أصبح من الواجب ابداله للتحليق مجددا .

أخي القارئ

بالأمس القريب شهدنا حراكا فريدا من نوعه ، ولأول مرة نرى شعبا في لبنان ، نعم نرى شعبا حقيقيا لان شعب الاحزاب ليس بشعب بل دمى يحركها الحزب لصالحه .رأينا رأيا عاما مع العلم بأن الرأي يُسمع ولا يُرى ولكننا رأينا وسمعنا وشعرنا بأن الشعب اللبناني بالقدر الذي هو فيه متسامح ومحب هو محاسب شرس لو أراد ذلك حقا  وكلنا أمل بان يعيد البلاد الى قصر بعبدا . حذاري من التهاون وحذاري من الصفقات ، وحذاري من أفراغ مضمون ما تنشدون . أهل الحكم ليسوا بالعنوان بل هم الغلاف والغطاء ، اخرِجوا السلاح من الشارع وأعيدوا الشرعية الى السلاح ، نريد رئيسا يحمل العلم وكلنا خلفه

كلنا للوطن ،،،، كلنا للوطن ....





الثلاثاء، 23 يونيو 2015

عندما تحلّق النسور


خُلقنا احرارا ونشأنا فوق القيود، لا تحدنا حدود ولا تردعنا حواجز ، كبرنا على الايمان فكانت رجولتنا صلبة متينة أساسها الانتماء الصافي والولاء النقي لمن نوحّد ونعبد ، وكان رشدنا نضوج الدعوة ونهائية الايمان. نحن القوم الذي أحب الجميع على اختلاف مشاربهم وصادق الجميع على تنوعهم، وآمن بكل سماء وجنة وآخرة، ها نحن اليوم نجد أنفسنا على مفترق طريق ما أردناه يوما ولن نبق فيه طالما وجِدْنا ضمن خيارات التقوى.

أخوتي في الانسانية

للرجال مواقف وللمواقف رجال، وكم من مواقف خلقتْ رجالاً غيروا وجهة التاريخ وأعطوا معنىً آخر للقرار والرؤية والتصرف الحكيم، رجال ضحوا بكل ما يمكن وخلقوا الفرصة للحياة والحرية والكرامة. نعم كنا وسنبقى الرقم الصعب والسد الاصعب بوجه كل من فقد الرشد والصراط واتخذ من أيمانه سلاحا لإبطال أيمان الآخر عنوة ، نعم سنقفُ بكل حزمٍ وسنمنع تلك الآفات الدخيلة من الامساك بأمر الحق والمنطق ، وحذاري الاقتراب من أعشاشها والويل كل الويل عندما تحلق هذه النسور .

منذ الدعوة الحقة ونحن ندعو بكل صدق لأن يعمّ الخير والسلام والبركة في كل مكان، نؤمن بالعيش الحر وبالحرية لكل أيمان مهما كبرت غرابة مذهبه ، أو دفنت حقائق أتباعه . نحترم الآخر ونقدر خلق الله فيه ، نسامح من أخطأ فالكل يخطئ ، ولكننا لن نغفر لنية الالغاء ونزع الشرعية والبقاء .

أخي القارئ

يميزنا الانتماء المطلق لوطننا والولاء الصادق لدولتنا ،ولكنّنا نمتاز بوحدة طائفتنا التي لا تتجزأ ، لا نساوم ولا نهادن على وجودنا ولا نعترف بحدودٍ تفرقنا ولا بقيودٍ تمنعنا فنحن معْشرَ الاخوان قلبٌ واحد وجسم واحد فان مسّه سوء مسّنا كلنا وأيٌّ تهديد لجزء أنما هو تهديد للكل وعلى هذا حلفنا وعلى هذا تحالفنا وعلى هذا اومرْنا وقبلنا وختمْنا .

تاريخنا يشهد على مدى تواضعنا وقبولنا بالمكتوب، وتاريخنا يشهد على ما أردنا أن نكتب بكلمتنا وبسيفنا وببندقيتنا، لطالما حلّقت نسورنا وتحلّقت بعدها حلقات من المجد والشرف والعزة رفعت رأس فاعلها وحطّمتْ أطماع مسبّبها . لم نردْ اكثر ما أراده فخر الدين ، ولم نرضَ بأقل ما فعله سلطان باشا الاطرش ، ولا نزال نكبر على عزيمة الأمير مجيد أرسلان ونسيرُ على حكمة كمال بك جنبلاط ، وها نحن مزيج من صلابة وحكمة ومرونة ، أنّنا رقم لا يُضرب ولا يُقسم ولا ينطبق عليه الحساب أبدا، لا نُدخِلْ ولا نَدخلْ ، بابنا مفتوح وجنّتنا مُغلقة ، وحسابنا عسيرٌ علينا فكيف على من يسيء الينا ؟

أخي أيها الآخر في هذا الشرق ، أيها الذي وجدتَ مكانك عبر دعوتك وأيمانك ، نشرتَ ما تؤمن به وعبدتَ من تراه ألهك ، وقدّست من سلّمتَ له دنياك وآخرتك ، فكانت رحابة الصدر أوسع بكثير من رحاب نجد والحجاز، وكان القبول ثمرة اللقاء والتسامح ،واذ بي أراك تبسط جناحيك في أجواء غيرك وتخطو خطوتك خارج حدودك وكأن التعاليم نُسيتْ والمحبة حُذفتْ ، والاطماع حُرّكتْ والامجاد استُحضِرتْ ، فبأي حقٍ قدمتَ ، وبأي حلمٍ حلمتَ ،وبأي نصٍ كُلّفتَ ، فوالله لو غفلَ الموحدون برهة لغابت أحادية الخلق ونهائية الحساب ، وعادت تماثيل الجاهلية تبشّرُ بدعوة الايمان من جديد ، وعاد الفارسي يوقظ بحيرة وابن نوفل ، ويقوّم النبي (ًص) خطأكَ الذي لا يُغتفر ، والله على كل شيء قدير .

لا !! حذاري من لعبة الالغاء ،

حذاري من لعبة الجهاد ، فليس كل جهد في السبيلِ جادْ

حذاري الاستقواء بالكمْ

فالنسور أقلية ،

 حذاري عندما تحلق النسور.


الثلاثاء، 9 يونيو 2015

القضاء للجميع ام القضاء على الجميع ؟


دعيتُ الى حفلة زفاف لأحد أبناء صديقٍ عزيز وكريم ، ولبيت الدعوة بكل فرح وسرور . لم أختر المكان ولا الرفقة بل جلست بمحض الصدفة الى طاولة تضمُّ مدعوين لا أعرفهم ولم يسبق لي أن التقيتُ بهم ، باستثناء صديق قديم جديد بدأت معرفتي به عن طريق بعض الاصدقاء وهو قاضي في الخدمة الفعلية ولا يزال يمارس الوظيفة في أكثر من محكمة .

كالعادة جرى تعارف سريع بين الحضور وتطرق الحديث لأبعد من فرح وزفاف كما في كل المناسبات ، فكانت السياسة المحلية والسياسة الاقليمية وما يدور من حولنا في الشرق الاوسط عامة . سررت بالحديث وبدأنا بتناول المأكولات وحضر المشروب على أنواعه ورغبت في أن احضّر كأسا للقاضي يشاركني متعة هذه السهرة ولكنه رفض بكل أدب ولياقة وعندما أصرّيت على معرفة السبب قال لي : لا تنسى بأنني قاضي والعرف والادب والمنطق يقول بأن لا أشرب لأنني أولا وآخرا قدوة للمجتمع ومثلا يحتذى به ، فما رأيك بمشاهدة قاضي مخمور أو مثقل ؟ أرجو أن لا تسيء فهمي فالوظيفة لها أحكامها وقواعدها وشروطها ، وأنا من الذين يحافظون على توازن المجتمع والدولة ، أتريدني أن لا أحافظ على توازني ؟

لامست جوهره وفهمت من هو القاضي الحقيقي وعرفت الآن أن هذا الرجل المميز في المجتمع يتميز فعلا بالفعل والقول ، فان أصاب عدل وان أخطأ ظلم فالممارسة تبدأ من الذات قبل الكتب ، والمحافظة على الشخصية تبدأ من التصرف الصحيح قبل الشهادة والتقدير .

حملتني هذه الحادثة الى أحداث مرّتْ وسبقتْ ، والى شعارات علتْ ولكنها كانت عرجاء في سيرها وثقيلة في نطقها ، عارية من المنطق ومشبعة من التمييز والحقد والبغض . نعم لقد تلوّث ذلك الكتاب الشهير وتدنس ذلك القسَمَ المقدسْ ،والتجأت المبادئ الى معايير الربح والخسارة والجشع والاهواء ، فكانت الأحكام أشبه بخاتم مختار تركي عجوز لا يفقه من القراءة والكتابة الا أحرف الوالي المبجّل .

صديقي القارئ

تغنى الجميع باستقلالية القضاء وعدم انحيازه لأية جهة كانت ، واستند المواطن الصغير على نزاهة وكفاءة وعدل ذلك الرجل الذي توشح بثوب الوقار واحتمى بقوس العدالة التي لا تتجزأ ، فكان الرهان على الكلمة الحقّة وعلى النطق الذي تخطى الامل . نعم كان الرهان كبيرا، والنتيجة أكبر من حكم ومن قرار، والانتظار حتى تمر السحابة وينقشع الضباب ليفتح الباب ويصرخ الزمن:

محكمة !!!

يقف الجميع مع العلم بأن الأرجل ندرت ، ويسكت الجميع مع العلم بأن الكلام ممنوع أصلا ، ويأتي الحاجب بزيّه المرقط ويؤدي التحية ،، فتقابله عبسة من حواجب لا تحتاج الى حاجب بل الى انارة لترى من أين يُرى ،،، وحده المتهم المسكين يبقى جالسا لأنه ممنوع عليه الوقوف ، ومن يجرؤ على الوقوف بحضرة قضاة جلسوا فوق التهمة والادلة لمنع الخرق والابتزاز ؟

أخي القارئ

مأساتنا مع القضاء بدأت منذ أن استقل القضاء عن الحق والعدالة والشفافية والمنطق، بدأت مع بداية بدعة الإرضاء و"جبر الخاطر" كما يقول المثل العامي ، ومع مسلسل الانتماء والتبعية أصبحت الأحكام جوائز ترضية تخطت المألوف والمتعارف عليه وقفزت فوق المشرّع وأدبيات النقاط والحروف .

مأساتنا مع القضاء بدأت منذ أن اصبحت الوطنية قضية والقضية باب رزق ، والرزق هدف والغاية تبرر الوسيلة ،فقوس العدالة اصبح كقوس قزح متعدد الالوان والاتجاهات يبرق ويلمع مع تبدل الضوء على ضوء ما يُبدلُ القاموس من مصطلحات تتفق مع اللغة الصعبة .

 محكمة !!

بقدر ما هذا الصوت يدبُّ الخوف والرعب ، يدبُّ أيضا الامل والتمني بسماع كلمات تزيح ثِقلَ الهمَّ وعذاب التوحد ، ولكن بقدر التسليف يأتي التكليف ويخرج الحكم النظيف بثأر لطيف ، فيعود الكل راضيا وقانعا باستثناء الحق الذي أُهدِرَ حقه باسترجاع كرامته وشرفه ، ويُغلقُ الملف وتُفتح خزنة أخرى وهكذا الى أن نتمنى لهم التقاعد المبكر والله سميع مجيب .

ما من فساد أكثر أذيّة من الفساد القضائي ، وما من فساد يدمّرُ المجتمع أكثر من فساد القائم على اصلاح المفسد وتأهيله ، حلقة تتشعب وتتمدد لتطال البنية الاساسية للمجتمع ، وعندما تتمكن لا يمكن العودة ولا التقدم فتقف الامة عاجزة عن الترميم وتتراجع الثوابت ونفقد التوازن الى التلاشي والزوال .

ثلاثة مكونات أشبه بقاعدة حسابية اذا تخلفت احدى ركائزها بطل فعلها ، القاضي والنيابة والدفاع ، وكلهم أبناء مجتمع واحد جلبهم التكوين وصنفهم التعليم وجمعهم الخطأ ،وبالتالي كلٌ بحاجة الى الآخر وكلٌ يكمل الآخر واذا فسدَ واحد فسدَ الآخر ، فما بالك بالثلاثة الفاسدين؟

انتهت الوصاية وانتهى الاحتلال السوري وانتهت معه محاكمات الترضية وأحكام البيع والشراء، وانتهى معه عهد من الفساد العلني عرفه كل مواطن في بلدي. معادلة بسيطة :النصف للقاضي والربعين للآخرين ، والسعر حسب التهمة وحسب الرتبة وحسب الحسب والنسب ، والاهم من كل ذلك جعبة المتهم وما تحويه من عملات صعبة أو عقارات أو سندات وكلها قابلة للتداول في سوق أسهم القضاء الوسخ . نعم مرحلة قطعتْ وتقطعتْ معها سبلُ الاصلاح ولكن: أيعقل بعد هذا أن نترك ذيول تللك المرحلة تهيمن من جديد على واقعنا القضائي؟ أم أنَّ الفساد متأصل لا يمكن ازاحته؟

صديقي القارئ

لا مجال للشك ولا مجال للتخمين ولا مجال للخطأ أبدا في قراءة أحداث قضية ميشال سماحة " لا سامحه الله" ، فالوقائع واضحة والادلة دامغة والاعتراف الصريح سيد الموقف بالصوت والصورة والاعتذار، فلماذا هذا الاستهتار بالرأي العام ولماذا هذا الذل للحق للعام ، ولماذا هذا الانحدار والانحطاط الاخلاقي من قبل محكمة أقل ما يقال عنها انها عسكرية اي انها آخر ورقة رابحة للحق اللبناني ، وآخر ملجأ آمن لكل مظلوم ، عسكرية : اي الانضباط والحزم ، الشرف ! شرف المواطن والوطن والحق العام، التضحية! التضحية بالمصالح الشخصية لصالح المجتمع والكيان، الوفاء! الوفاء للقسم العظيم بالمحافظة على البلاد والعباد ، ولكن سوابق المحاكمات عندنا كثيرة وللتذكير لا للتشهير ، من محاكمة قاتل الطيار سامر حنا ، هذه المحاكمة السخرية والمضحكة وبراءة المجرم على يد مجرم آخر تثبت ايضا أنَّ الفساد جزء لا يتجزأ من منظومة السلطة المستقبلية المنتظرة، وقبلا محاكمات ضباط وعناصر الجيش الجنوبي وما رافقها من عمولة ونسب مؤشرات بورصة الجيوب ، ناهيك عن أرجوحة المحاكمات للإسلاميين الذين لا يزالون يقبعون تحت نير الاعتقال التعسفي ،نعم عزيزي القارئ فأنا لا ابرأ ساحتهم ولا أدينهم كذلك ، بل أنتظر كغيري من اللبنانيين نتائج المحاكمة وعدم التمادي بخرق حقوق الانسان وخرق أعراف الحرية والعدالة والمساواة. محاكمات ستبقى وصمة العار التي لا تمحى من على جبين كل قاضي ومحامي وخاصة ذلك الوغد الفاسد عدنان عضوم وزمرته من اولياء الامور من النظام الامني اللبناني السوري وعلى رأسهم سيء الذكر اميل لحود.

اخي وصديقي

 

السؤال الكبير: بعد كل ما ورد على لسان المجرم ميشال سماحة واعترافه الواضح بضلوع الرئيس السوري مباشرة في هذه القضية ومدبر اغتيالاته علي المملوك ، وبعد ثبوت العمل الجرمي من ناحية النية والامر بالتنفيذ على هذا النظام ورموزه ، بعد هذا : أين موقف حلفاء سوريا من هذه القضية ؟ وهل سكوتهم علامة الرضا أو النأي بالنفس ؟ وهل الدولة اللبنانية عاجزة الى هذا الحد عن اتهام من هو ضالع فعلا بالقضية؟ وهل سفك الدماء اللبنانية لا زال الشغل المسلي لزمرة دمشق وجوقتها اللبنانية ؟الى متى؟ الى متى ايها اللبناني؟ الى متى ستبقى صامتا ؟ متى ستصرخ عاليا دون خوف وتضرب يدك على طاولة الحق وتقول لهم:

انكم شركاء في هذه الجريمة سواء نكرتم ذلك بالصمت او بالكلمة ، انكم أعداء هذا الوطن وانكم أعداء هذا الشعب ، وسيأتي يوم قريب انشاء الله وستحاسبون على كل ما اقترفت أياديكم من أعمال إجرامية بحق هذا الشعب المسكين .

أخي القارئ

لا أقرع طبول الحرب ولا أنشد السلاح، بل أطالب بثورة سلمية نظيفة حضارية بالتصدي لهؤلاء القتلة بتوعية تابعيهم وتوعية المجتمع من مخاطر ما هم عليه وما هم سيقدمون عليه. أطالب الشباب اللبناني المثقف المدرك لمخاطر التسلط والهيمنة أن يعيد حساباته ويعيد تقويم خياراته، ويضع مصلحة الوطن فوق كل مصلحة. كفى للطاعة العمياء ، كفى للولاء المطلق ،كفى للتضحية الرخيصة . أطالب الدولة ومهما كلف ذلك من ثمن بتحويل اعترافات سماحة الى محكمة الجنايات الدولية أو المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ، أو الى مجلس الامن الدولي على أساس التدخل السوري المباشر بالأمن الداخلي اللبناني والعمل على زعزعة النظام والهدوء والعيش المشترك اللبناني . ليكن ما يكن وليحدث ما يحدث.  وكما قيل:

شو هلّي أخذك على المرْ؟  قلّو الأمرْ .

 

 

 

 

الأربعاء، 27 مايو 2015

زتّو حتى يوقف


 

تضطرب الاحوال وتشتد الازمات وينهمك الناس في تدبير سبل الحياة ، وتنصب جلّ الامكانيات للتخفيف من وطأة الشر الذي اصاب او الشر الذي سيصيب ، وتعلوا اصوات التحكم ورباطة الجأش وتخفت بالنهاية كل ضوضاء وضجة وانفعال عندما يقف سيد او امير او شيخ او راهب او علامة او سايس او داعية ويطلق معادلة لا تمس بصلة الى الرياضيات ولا الكيمياء ولا الفيزياء ولا حتى الاجتماعيات والتربية ، معادلة من صنع صانع لا عيب فيه ولا تقصير ولا تشوبها شائبة لا من النص ولا المعنى ولا الشرح ولا التفسير ، معادلة يطلقها من سنها وينفذها من لا يفهمها ، فالفهم عيب والسؤال عنها وقاحة ، والحوار فيها خيانة انها الفهم المستحيل والقرار البديل .

اخي القارئ

لا شك ان اللبناني ابدع في صياغة المعادلات واجتهد في التحليل والدرس حتى باتت كل كلمة عربية عنده لها معناها الخاص ولها توجهها الخاص ولها دلالتها الخاصة في الدين والسياسة والامن والحرب والسلم ، واصبح عنده الموقف مادة حوار لا تنتهي والتصريح موضوع انشاء يبنى عليه الممنوع من الصرف ، وتُشكل الاحرف وفق المنهاج الخارجي والاسلوب الدخيل .

لا احسدكم ايها اللبنانيّون على ما انتم عليه ، ولا اهنئكم على ما وصلتم اليه ، فانتم لا زلتم الصندوق الذي يتسع لكل شيء ولا يصلح لشيء ، فسد صالحكم ونزّه مفسدكم وانتم على انقاض انفسكم تدوسون ودياركم ملعب الضالين والكفرة. عدلتم فيما بينكم بمعادلة كفاركم وكفرتم بنزاهة صلاّحكم ، فو الله آمنا بيوم حساب واحد ولكنكم تحتاجون لسنين حساب وعقود ثواب ، ولجهنّمات علّها تتسع اجيالكم .

اخي اللبناني

حبذا لو تستطيع ان تشرح لي وللقارئ العزيز من انت واين انت وسط معادلات زعمائك وساستك واسيادك:

قوة لبنان في ضعفه، معادلة اطلقها ساسة الجمهورية الاولى على اطلال هزائم العرب المتلاحقة ، معادلة جعلت من اللبناني مدعسا لأقدام من هو اكثر ضعفا منه واقل شأنا . صدّق المسكين المقولة الفذة واطلق الثقة العمياء في الضعف الى ان افاق على دولة المخيمات وصدقات الريالات ، فانقلب الضعف الى طيش والطيش الى غرور ، والغرور الى مأساة ضاقت بها الحُجَرُ والقبور .

وحدة المسار والمصير ، معادلة اطلقها عملاء الاحتلال السوري جعلت من اللبناني العوبة بل اضحوكة بيد ماسح الاحذية الذي امعن بصقل وتلميع الحذاء ليليق بشفاه اللبناني ، من اجل ماذا ؟ من اجل مقعد او جاه او سلطة ؟ او من اجل القضية الفلسطينية التي لا شأن لك فيها بعد ان تخلى عنها اصحابها ؟ او من اجل نظام البعث الذي لا يُبعث الا من الجماجم والجثث والقهر والابتزاز والتسلط؟

تدبُّ خلف زعمائك على الاربعة ولا يُسمح لك بالوقوف الا للتصفيق ،وانت تنام على" السبع خرزات " ، ماذا فعلت ؟ لا شيء تولول هنا قليلا وتصرخ هناك قليلا وفي النهاية تنجرّ الى صندوق الاقتراع وتبصم سواء كنت مثقفا او اميا ، فالبصمة دليل حضارة ورقي عند اسياد عنجر . لم نسمع كلمة ادانة واحدة ، ولم نرَ مسيرة واحدة او مظاهرة صغيرة ضد رموز النظام القمعي اصحاب رؤية المسار والمصير، ولم تحرك ساكنا ولو اعلاميا ضد السيء الذكر الرئيس السابق اميل لحود وعصابته وعلى رأسهم المدعو عدنان عضوم وآخرهم من وقع بقدرة الهية ميشال سماحة . لم تفعل شيئا ولن تفعل شيئا لأنك شيء من لا شيء.

وسقطت معادلة المسار والمصير ، عُكست المسارات حسب المصالح والاهواء وانتهى المصير الى فوضى الحرب الاهلية السورية والى نشوة السلطة والهيمنة الحزبية اللبنانية ، وانت ايها المواطن كنت الطعم وما زلت يحركك هذا ويقلبك ذاك مع الم الضهر وتوعك الخاصرة .

وها نحن امام معادلة المقاومة والشعب والجيش ، اطلقتها ابواق الهيمنة والتسلط من حزب الله  والنظام الامني السوري اللبناني ، معادلة جندت لها كل موارد الدولة التابعة والملحقة ، ولفق لها كل شيء وسُخر لها كل مورد وبيعت الهويات والجنسيات وتخطى الامر كل محظور وسمح الممنوع ومنع الحق .اذلال وخنوع ، طاعة عمياء وولاء صامت ومن يسأل ليس الا خائن يحلل لكل من يحب الحرام على حساب الحلال الآتي من السماء . وايضا صدّقتَ المقولة وتلحفتَ عباءة الاسياد والعلاّمات وحملت اكثر من السلاح ، حملت الفكر المتطرف وحملت التمييز في المواطنة والتراتبية الفئوية فتربع عليك ومدّ قوائمه ليحيطك جهلا فوق جهل وليمعن في طعن ثقتك بباقي وطنك فاذ بك امام خيارين لا ثالث لهما : اما الموالاة او السكوت ، وافقت على نظام اشد قمعا من نظام الهيمنة السورية ولو انه امتداد له والفارق هو ان هذا النظام الجديد بالإضافة الى جذوره السابقة فقد اضيفت اليه النكهة العجمية الاصيلة وكيف لا واللبناني يحب العجمي الاصيل؟ افقت في السابع من ايار على معادلة جديدة اما نحن او لا احد ، وضرب عرض الحائط بكل حق ومنطق واصبح السلاح زينة الشيعة والملحق مجرد "كمالة عدد" . انتهت المعادلة مع انتهاء الشعب وذواب الجيش في الولاء المتشرد والوصايا الآتية واختصرت الكلمات لتصبح " المقاومة" ضد كل من يجرؤ على القول لا . وانت ايها اللبناني يا بقايا هيكل فينيقي انتشله غطاس صدفة ، اوا ليس الاجدر بك ان تعود الى حيث انت ؟

اخي القارئ

اخطر معادلة يشهدها لبنان حاليا هي معادلة التمييز الطائفي والطبقية المذهبية ، اي ان المعادلة المذكورة اعطت التمييز للشيعي على غيره من المواطنين اللبنانيين ، هذا بالطبع الشيعي الموالي لحزب الله مع مراقبة شيعيّ حركة امل على انهم غير منضبطين ، وبالتالي ان الباقي لا يشكل الا ملحقا رقميا وغطاء مذهبيا من الطرف الآخر لحزب الله وهو التيار الوطني وبالأخص زعيمه العماد ميشال عون . معادلة اعطني الغطاء وخذ الدعم وسوف يبقى العماد على هذا الدعم حتى النهاية ، دعم فقط دون نتيجة تذكر وهذه هي اللعبة البقاء في المستنقع مع كامل مقومات العيش فيه. من جهة ثانية نرى مظاهر هذه المعادلة في الخطاب الشيعي سواء من النواب او الوزراء او المشايخ والائمة والاسياد ناهيك عن غطرسة الصحافيين الموالين للحزب ونظرتهم للآخرين على انهم جهلة ناطقون ، مظاهر التمييز بين الطلاب والاساتذة والموظفين والعمال حتى ما بين سائقي التاكسي واصحاب المولدات والمرامل والمشاحر ، اذا انت شيعي اذا انت مميز ، ويحق لك ما لا يحق لغيرك وهذا هو الخطر الحقيقي القادم عاجلا ام آجلا ، هذا الخطر الذي سينهي كل شيء اسمه مواطن ووطن .

ربما لا يكفينا العداء بيننا وبين الشعب السوري منذ عهد الوصاية حتى يأتينا عداء من نوع آخر عداء طائفي ومذهبي تجاوز البحر الى البحرين ، ربما لا يكفينا ما نحن فيه من مشاكل طائفية ومذهبية حتى تأتينا جحافل التكفير والاصولية المقيتة ، ربما لا يكفينا ما نحن فيه حتى نصدّر ما نبرع فيه ونتخطى الجغرافيا القريبة الى ما بعد الربع الخالي ، فتواصلنا عبر حدود القداسة من الست زينب والدفاع عن العتبات الى الدفاع عن عبدالله صالح ومصالح قريبنا وصديقنا الحوثي ولاحقا من نجده من الشيعة الكرام في مختلف بقاع العالم ، نعم لقد تخطينا الام تيريزا في مد يد الرحمة والمساعدة وكل ذلك باسم الإله المترجل من سمائه في قم وكربلاء ، وضد الوالي المتأله في الخلافة الاسلامية في الرقة والانبار.

 اين انت ايها اللبناني بعد هذه المعادلات المذلّة والسقوط المخزي ؟

قسم يشتكي ويقرأ الفاتحة على قبر الشهيد رفيق الحريري ،

قسم هاجر وغاب خلف البحار يهدد ويصرخ ويعد بالويل وكل الويل

قسم يئنّ تحت نير الاهمال والفساد والسرقة والاحتيال

قسم يتظاهر مؤيدا لهذا وقسم ضد ذاك والاثنان لا يعلمان ما يفعلان

قسم يتفرج " مين ما اخذ امي صار عمي"

والمعادلة تفرض قسما آخرا مسلحا متمكنا مسيطرا متسلطا  يفرض ما يريد ويعمل ما يشاء حسب التعليمات والاوامر ، في الداخل كما في الخارج لا حاجة الى جواز سفر للعبور ولا فيزا للدخول ولا اذنا للعودة .

ايها اللبناني

ما حصل عليه الحزب لا يمكن ان يؤخذ منه بالطلب والكلام والحوار ، الحزب لا يعطي ما لا يملكه فالقرار بعيد جدا بين يدي الفقيه والولي الامين ، فالمعادلة بسيطة جدا : لماذا يعطي الحزب ولمن ؟ ما الاسباب الموجبة للعطاء ومن افضل من الحزب للبقاء على رأس هذه المزرعة؟ وما هو المقابل طالما لديه كل شيء؟

نعم هذا هو الواقع المرير الذي يعيشه اللبناني الحقيقي والى ان يعي ويفيق من هذه الغيبوبة علينا الانتظار والايمان بمعجزات القدر .

لنتذكر المقولة المشهورة عن اللبناني :

"كيف ما تزتو بيجي واقف " واقول له :

ماذا تريد بعد لتقف ؟.

الاثنين، 13 أبريل 2015

من تحت الدلفة لتحت المزراب



الثالث عشر من نيسان عام 1975 ، تاريخ طُبع بذاكرة اللبنانيين يقفون امامه حائرين ما بين التذكر والنسيان ، التذكر لأخذ العبر والعودة الى الذات لتبيان الخطأ والاصلاح ، ام النسيان والعبور الى اللامبالاة  والاختباء وراء الشعارات والتبريرات والحجج التي هي اقبح من ذنب .

الثالث عشر من نيسان عام 1975 ، كانت معارك صيدا على اشدها بين الجيش اللبناني وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية ، وانا كنت وقتها في الجيش اللبناني بصفة طالب احتياط ، اقاتل من اراد المس بشرعية الوطن والمس بكيان هذا الوطن والمتاجرة بأرواح ساكنيه ومقيميه وعابري سبيله ، كنت اخوض المعارك لأنني ابن الجنوب وهذا يعني بأنني ابن اتفاق القاهرة 1969 المشؤوم سيء الذكر ، وهذا يعني انني أعي اكثر من غيري ولو قليلا قيمة الوطن وقيمة الحرية وقيمة الكيان ، وهذا يعني انني اخوض الحرب لا من اجل حزب او طائفة او مذهب او محور او تحالف او قضية ، اخوض حرب البقاء لي ولعائلتي وحرب الآخرين الذين داسوا على كل ما يمكن ان يكون لبنان .

اخي القارئ

عزفنا نشيدا بعيدا كل البعد عن النشيد الوطني ، ولحنا اناشيد تشيد بجميع الخلق باستثنائنا ، قرعنا طبول الآخرين ومشينا برأس القافلة ، دفعنا من دون سؤال واشترينا دون حاجة وانخرطنا من دون خبرة حتى اصبحنا بقائمة لا حاجة لنا ، تهْنا ما بين التغيير والانتماء وفقنا حفاة وعراة ، ويقف الجميع الآن محللا مناقشا كيف لماذا ومن اين والى اين ، وكان يجب ، وكان من الافضل .

الثالث عشر من نيسان عام 1975 ، منظمة التحرير الفلسطينية مسلحة ومدربة تسيطر على الجنوب وعلى المخيمات ومحيطها ، تمارس الضغط هنا والتهديد هناك والويل كل الويل لمن يسيء الى القضية الفلسطينية ، تنشر الاتهامات بالعمالة والتصهْين ،تسيطر على الارض وتمسك برقاب القرار الوطني اللبناني ، واحزاب تصطف في اليسار واخرى في اليمين والحوار عبر اكياس الرمل والمتاريس ، والبوسطة تمر ويمر معها قدر هذا الوطن ويتعلق بعجلاتها مصير شعب عانى الامرين ما بين من باع القضية ومن لا يزال ينادي على بيعها .

 واليوم:

الثالث عشر من نيسان عام 2015 ، حزب الله يسيطر على الجنوب وعلى الضاحية والبقاع وقسم كبير من الشمال ، يسيطر على الارض ويمسك بالقرار الوطني اللبناني ، واحزاب تؤيده وتنضم تحت لوائه واخرى تناهضه وتقف في المقلب الآخر ،وكل من يخالف هو عميل متصهين ، والشعب المسكين يقف حائرا من جديد امام من لا يزال ينادي على القضية الفلسطينية ويكرس انتماءه وولاءه الى ولاية الفقيه الايرانية ، وما بين الجمهورية الاسلامية والقضية الفلسطينية ضاعت الجمهورية اللبنانية وضاعت الهوية الوطنية،  اوليس التاريخ يعيد نفسه؟

اخي القارئ

نعم صديقي من تحت الدلفة لتحت المزراب ، من منظمة التحرير الفلسطينية واليسار اللبناني الى حزب الله وقوى ثماني آذار ، من الجبهة اللبنانية وقوى اليمين المعتدل الى 14 آذار وبعض القوى المعتدلة التي اعتنقت الوسطية بمعايير انتخابية ،من زعماء الميليشيات الابطال الى نواب الامة الابرار ، من المارونية السياسية الى الشيعيّة العقائدية ،ومن السنيّة العروبية الى السنية الخلافية (دولة الخلافة)، ومن الدروز الموحدين الى الدروز المتوحدين ،

نعم من تحت الدلفة لتحت المزراب ،من العروبة والناصرية الى الاسلام والفارسية ، ومن مسيحية مار مارون الى مذاهب الصلبان الاربعة ومن سيتربع على عرش فاتيكان – بعبدا ، سطوحنا تدلف ومزاريبهم تتدفق ولبنان عطش الى ادنى قطرة من المسؤولية الاخلاقية والانسانية .اربعون عاما ولا يزال الاربعون حرامي في العز والجاه والعنفوان ، يصولون يجولون ويحاضرون في الوطنية والديمقراطية والقومية والشمولية والعولمة والى كل ما تطال ايديهم وينطق لسانهم وتريده غيرتهم .

بعد اربعين عاما ، لن اذهب بعيدا في المساءلة والمقاربة والتفسير واخذ العبر وسؤال من يدري او يعلم او درس ، لن اذهب لأحد بل سأعود الى نفسي ، الى ذاتي لأسأل بصدق واجاوب بصدق اكثر ، نعم بصدق لأنني سأحاور اولادي الذين كبروا وتعلموا وادركوا وآن لهم ان يعلموا الحقيقة والوقائع بكل موضوعية وشفافية . اعود الى نفسي لأني شاركت منذ البداية منذ البوسطة الاولى عام 1969 الى بوسطة عام 2000 والطريق سالكة والبوسطات بانتظار الدور والضوء الاخضر .

يا بني

الثالث من كانون اول عام 1969 ، انطلقت بوسطة اتفاق القاهرة لتشق طريقها باتجاه الجنوب وكانت محطتها شرق نهر الحاصباني ونزل ركابها الابطال من ابي الهول وابي الجماجم الى ابي الغضب وابي عمار وابي الدمار ، نزل ركابها لاستراحة قصيرة ليتابعوا السير باتجاه المطلة وصفد وحيفا ، ولكن البوسطة بنشرت ولم تعد تستطيع السير ووجب تغيير الدواليب ، والى حين انتهاء ورشة التصليح دفعنا ثمن " لبنان قوته في ضعفه" ، ودفعنا ثمن العروبة والقومية والصمود والتصدي واللاءات الثلاث لزعماء الخرطوم ، وانا دفعت ثمن البقاء والتمسك بالأرض من دم وعرق واهانات وذل وصبر.

الثالث عشر من نيسان عام 1975 ، انطلقت بوسطة ثانية بموديل احدث من سابقتها ولكنها من نفس المصنع ومن ذات الايادي المهرة ، انطلقت من مرآب ابو عمار من منطقة تل الزعتر وكانت محطتها الاخيرة في عين الرمانة حيث نشب ما نعرفه جميعا ، وانا كنت في صيدا اقاتل بصفتي طالب احتياط في الجيش اللبناني ، اقاتل نفس من قاتلتهم عام 1969 ، وندفع الثمن ثانية ، ثمن التقاعس السني وعدم انتمائه الى وطن نهائي وثمن المارونية السياسية التي احتفظت لنفسها بالإقطاع السياسي والانماء غير المتوازن ، وانا نفسي ثانية في خضم حرب لا افهمها ولا أعي بعدها السياسي ولا الايديولوجي بل اخوضها لأنني أحب لبنان وفقط لبنان .

الثلاثون من ايار عام  1976 دخلت بوسطة الاخوة المخلصة ودخلت معها تمنيات الاخوة العرب لهذا الوطن بالعزة والمنعة والخلاص ، وسارت هذه المركبة على طرقات لبنان لا من حسيب ولا من رقيب ، حتى باتت الوسيلة الاولى والوحيدة لنقل الساسة واصحاب الهمم العالية ، من لبنانيين وعرب واجانب ، ولكل من رغب في الدخول الى الجنة اللبنانية . نعم وبقيت هذه البوسطة الى ان اصبح بقاؤها عبئا على سائقها ، فرحلت بعد تسعة وعشرين عاما من الخدمة في نقل المساجين والمفقودين ، والمستشهدين والاستشهاديين والقتلة والبريئين ، والسارقين والمسروقين واللاعبين والمتفرجين وكل انواع البشرمن اليسار ومن اليمين .اللهم صبرنا والله مع الصابرين .

السابع من تشرين أول عام 1976 ، توقفت بوسطة الدولة اللبنانية نهائيا ونزل جميع ركابها واخذ كل منهم مساره وانطلق ، وانا انطلقت الى مسار مجهول في مقلب آخر وبعيد كل البعد عن كل ما تعلمته وادركته وتربيت عليه ، انطلقت الى حيث أرادني من بقي من بقايا الشرعية اللبنانية التي أجلُّ وأحترم وأطيع ، وخضت الحرب من جديد ضد العدو ذاته ولكن بحليف مختلف (اسرائيل) .

نعم يا بني

السادس من حزيران عام 1982 ،انطلقت بوسطة اخرى بحلة جديدة وماركة جديدة وهذه المرة من صناعة غربية ، هللّ لها القاصي والداني وزغردت النسوة في جبل عامل ورُشّ الورد ونُثرت الزهور والارز ، وأُستُقبل الجيش الاسرائيلي استقبال الفاتحين والمخلصين من ظلم ابو عمار وزمرته ( ربما نسي البعض هذه المسرحية الشيعية ) .نعم بعد هذا الاجتياح ركب من ركب ونزل من نزل ، والسائقون ينادون ولا من يسمع حتى انتهاء العمل في اتفاق 17 ايار ، وللأسف لم يقرأه احد ولم يناقشه أحد وطويت صفحة كانت حتما ستغير من مجرى التاريخ اللبناني ، ونحن من تحت الدلفة لتحت المزراب ، نتابع ما سبق في الجنوب وفي بيروت وفي الجبل ، وانا بانتظار بوسطة اخرى علّها تقلني وتقل الجميع الى محطة امان وسلام وهدوء .

الخامس والعشرون من شهر ايار عام 2000 ، محطة مصيرية ومفصلية قادت الوطن الى نفق التبعية والخروج فيه من الكيان الى الملحق ومن الوطن الى المخيّم ، محطة من تحت دلفة الاحتلال الاسرائيلي كما يقولون الى مزراب الاحتلال الايراني كما يقولون ايضا ، ناهيك عن بوسطة التطرف التي لا لون لها ولا ماركة ، سائقها اعمى وركابها بكمْ ، ونحن بعكس السير دائما ، وانا بانتظار بوسطة اخرى ايضا للعبور الى ما تبقى من حلم الجمهورية .

الرابع عشر من شباط عام 2005 شاءت الظروف ان تنتفض بلبنان وتعلن قيام الجمهورية الجديدة وانطلقت بوسطة الحرية بعد سنوات من الاحتلال والهيمنة والتبعية ، ولكن الركاب لم يرحموها ولم يداروا قوة تحملها فمشت ببطء وبشكل متقطع الى ان وقفت نهائيا على حافة الامل والرجاء ، وضاعت الجمهورية بين من احبها واحبها اكثر ومن احبها اكثر واكثر وتمزقت الاحلام .

اولادي الاحباء

محطات كثيرة على درب هذا الوطن المثقل بالبوسطات الغريبة ، محطات مميتة ومقيتة واللبناني يدفع للصعود وما يلبث ان يدفع ثانية للنزول ، ومع وعورة الطرقات وندرة البوسطات الجيدة لا يزال هذا الكيان ينتظر وسيلة صالحة لتنشله من الضياع ولكن:

هل تعلمنا شيئا؟

هل اتعظنا من كل ما مر بنا ؟

ربما اتكلم نيابة عن جيل كامل عاش الحرب بل عاش الحروب على أرض لبنان ، ربما نتفق على شيء واحد وهو عدم العودة الى الحرب ولكن هل الآخرون متفقون معنا على ذلك؟ وماذا نقول اذا كان البعض الآخر يجرنا الى الزواريب ثانية ؟
يا بني
مهما جارت الظروف وساءت الايام
لا للحرب
لا للتعصب المذهبي
لا للاحزاب

نعم وبعد اربعين عاما من تجاربي ،وبعد نجاحي بالعبور من فشل الى آخر ، وبعد فشلي بإحراز نجاح واحد ، في وطن النجاح فيه خيبة والفشل فيه غيبة ، وحتى لا ينجرّ اولادي من بعدي من تحت الدلفة لتحت المزراب ، أترك لهم حرية الحُكمِ والخيار ....... والقرار .