الاثنين، 17 أكتوبر 2016

العطا قيمة

                                                 
ابو حبيب ، رجل في الخمسين من عمره ، حمل هموم الحياة على راحة يده وجعل منها قصة ترويها الاجيال من بعده بابتسامة ومرح ، انه الرجل الذي يجمع ما بين النكتة وسرعة البديهة  ويطيب في خاطره كل همٍّ وتذوب كل  ازمة . ان حدّثك اسرك وان رافقك آنسك ،وان طلبته وجدته وان غادرته لا تقدر على الابتعاد اكثر من ليلة او ليلتين ، انه ابو حبيب ابن البلدة ورجل الساعة وصاحب الوجه الذي لن تنساه ابدا .
تراه في لباسه الرسمي فتعود بالذاكرة الى مرج دابق وهيمنة السلطنة التركية ، تخاله احد باشاوات القسطنطينية ، شروال مطرز الجانبين يعلوه قميص ذو طيات وطبقات وكأنه لكل الفصول ، تتدلّى منه ساعة جيب مرقطة تعمل على الصوت والحركة ، ابو حبيب والطربوش الاحمر رمز القوة والبطش والارادة الصلبة ، تراه فتهابه لوهلة ولا تلبث ان تعشق المظهر والصوت والاشارة والملاقاة والتعارف .
احد ايام الصيف ، والعاصمة بيروت تحت وطأة الحر الشديد والناس تتسارع الى الاماكن المضللة واكشاك المشروب والعصير البارد وابو حبيب يتجول متأنقا لا يبالي بهذا او ذاك ولا يعير للطبيعة اي اهتمام ، جلّ ما يريد هو الوصول الى صالون الحلاقة الذي ارشدوه اليه على انه صاحب خبرة وصانع تحفة ، يقدّر الرجال ويعرف الاصول .
" كثّرْ من الاسئلة وقلّلْ من الدوران" شعار ابو حبيب في بلاد الاغتراب ، هكذا كانوا يطلقون التسمية على بيروت " الاغتراب" وكأنّ النزول الى بيروت هو وداع وسفر وتوصيات . وصل ابو حبيب اخيرا الى صالون الحلاقة بعد ان قطع الطريق مرات عديدة بمواجهة السير والزحمة والتصدي لأبواق السائقين المتطفلين على ذلك الهندام الذي يوحي اليك للوهلة الاولى بسذاجة صاحبه او بساطته وقلة خبرته. تعالت الاصوات منبهة تارة وشاتمة تارة اخرى بكلمات الفها الشارع وخبرها السامع: "حيّد" ودور وتاع " كلمات تشير للسخرية وتثير الغضب الضاحك وفكاهة المشكل . نعم وصل ابو حبيب ودخل الصالون معلنا انتصاره على التمدن ودوسه على الحضارة وعجقة العناوين وجلس على كرسي خشبي بعد طرحه السلام المعهود " العوافة" كيف الجميع انشالله الاعمال ماشية والحالة جيدة وكأنه يعرفهم منذ امد بعيد وهذا ما يُعرف بسلام المعرفة وتعارف الرجال .
لم يترك المعلم حبقة " الحلاق" كلمة ترحيب الا واتقن لفظها وتمادى في تفصيلها ليوصلها مشبعة بالترحاب وحسن الملاقاة والضيافة المتبعة في شربة ماء باردة من ابريق فخار نُصب في زاوية الصالون ، نعم لقد انهال المعلم حبقة على الضيف بالتأهيل والمباركة والبركة التي رافقت ابو حبيب وكيف لا وصاحبنا حبقة من اشد قانصي الفرص ، وابو حبيب على ما يبدو صيد ثمين ندر وجوده وقلت مشاهدته.
حديث الساعة وحديث المدينة والاستماع لابن القرية الضيف والوقوف منه على حالة الناس البعيدين عن البحر كما يقولون ،وابو حبيب يجود بالموجود ويعطي لكل سائل جوابا ، واكتظّ الصالون بمن يريد الحلاقة وبمن يريد الاستماع ، والفضول ادّى في الحالتين الى كفِّ يد حبقة عن العمل لإكمال محاضرته وشرح مستجدات الساعة وحدث اليوم .
اخيرا طُلب من ابي حبيب الجلوس على كرسي العمليات قبالة المرآة الكبيرة ، وبدأ المعلم حبقة استشاراته وابداء آرائه واقتراحاته آخذا بعين الاعتبار رأي ابا حبيب حول كيفية قص شعره وابراز معالم رأسه وهيبة وجهه. رسي الرأي وبدأ المعلم حبقة مشواره الفني في فناء ابي حبيب الخلفي صعودا لأعلى الرأس واضعا كل مهاراته وخبرته لإنجاح هذا الاختبار .نعم بدأت مرحلة التزيين من قص وتمشيط الى رش الماء ونشر البودرة ، وبين طقطقة المقص وصوت حبقة كلمات الحضور بالثناء على المعلم وبتهنئة الزبون على نجاح العمل والارتياح التام لمجريات القصَّة .
انتهى حديث الحرب العالمية وقصة استقلال لبنان ، ولم تكتمل اطروحة المعلم حبقة حول قَصّة الشَعر وترميم ما اتلفه الدهر برأس ابي حبيب .يدور حوله متأملا وينظر بالمرآة وتلوح يده بالتزامن مع حركة حاجبيه معلنا اكتشاف خلل ما ثمّ ما يلبث ان يزفّ بشرى انتهاء مرحلة من مراحل النحت . رش الماء ونفخ الشعر ونفض الشرشف من حول عنق ابي حبيب وها هو قمقم العطر في طريقه الى بعث الحياة وتجديد العمر وضخ الشباب ثانية في عروق من انهكه الدهر . انتهت المعمعة وبكل لطف وذوق وبابتسامة عريضة تعدّت حدود الفكّين هنأ الحلاق زبونه قائلا: "تفضل اذا بتريد" مشيرا اليه بالنزول من على الكرسي ، وهكذا تنفس ابو حبيب الصعداء بعدما استهلكه الحلاق كل وقته والقى النظرة الاخيرة على المرآة وهز برأسه معلنا الرضى والقبول واخذ من جيبه محفظة نقوده الجلدية ووضع بيد الحلاق ورقة مالية من فئة الخمس ليرات وجال على الحاضرين بلمحة وداع وأسف على التأخير  منتظرا ان يعيد المعلم حبقة ما سيبقى من المال بعد اقتطاع الحساب . طال انتظار ابو حبيب ولما اشار اليه بتمتمة صغيرة قال له الحلاق وبصوت الواثق الفائز :
المحل محلك ، والعادة هنا " العطا قيمة " .
استوعب ابو حبيب المقلب بسرعة وايقن بأنه أكل الضرب كما يقال ، وبكل هدوء وروية وضع يده على كتف الحلاق قائلا: العفو ! قيمتي اكبر بكثير من خمس ليرات ولكن لسوء حظك اتيت اليك بعد انتهاء تسوقي في بيروت ، فأرجو المعذرة وغادر مودعا الجميع شاكرا حسن الضيافة وحسن المعاملة . عاد ابو حبيب الى البلدة ولم يخبر احدا بما حصل معه وقرر العودة الى ذلك الحلاق ليحلق رأسه وليحلق لذلك المعلم .
سنتان تقريبا على تلك الحادثة حين قرر ابو حبيب الذهاب الى العاصمة للأخذ بالثأر وهكذا حصل ، دخل الصالون كالغريب سائلا عمّا اذا كان بإمكانه قص شعره بسرعة لأنه على عجلة من امره ، استقبله المعلم حبقة وامر مساعده بأن يتولى امر ابو حبيب دون اية دلائل على انه عرفه او تذكره . انتهى العمل وقام ابو حبيب من مكانه وأخرجَ من جيب شرواله بيضة دجاج ووضعها بيد المعلم حبقة قائلا:
يعطيك العافية معلم حبقة
صرخ حبقة : شو هيذا حبيبي ؟
اجابه ابو حبيب : ولو يا زلمة نسيت؟ العطا قيمة وخرج من المحل .
عزيزي القارئ
تجتاحنا موجة من الحلاقين السياسيين المحترفين ، اصحاب سلطة ومال وصالونات ممتلئة بأمثال ابي حبيب الذين اعطوا من قلبهم وبمحض ارادتهم لهؤلاء المتسلطين كل الثقة وكل الامل لإدارة امور الناس والسهر على راحتهم وحقوقهم . نعم لقد اعطى شعب لبنان من قيمته ، اعطى من عرق جبينه ومن مثابرته وصموده، اعطى من كرامته ليكرّم الوطن ، اعطى من حريته ليتحرر الوطن من الانزلاق والهيمنة .
العطا قيمة !! وما اقدس من عطاء ذلك المواطن الساهر على البقاء
العطا قيمة ّ وما انبل من عطاء التعايش الحر والتآخي
نعم ....
اعطى قيمته ، نعم اعطى كل ما يملك لذلك السفاح القابع خلف مكتبه يدير الصفقات ويدير الصالونات ، يحلق لهذا ويقص لذاك والرؤوس تتدحرج وتقف الرقاب بالدور بانتظار النحر.
مئات كما المعلم حبقة ، تذوقه فتبصق تشمّه فتعطس ، تلمسه فيصيبك حكاك جهنمي والجميع من ابي حبيب الى ام حبيب الى حبيب واخوته وجيرانه واصدقائه وابناء بلدته وصولا الى قومه ،الجميع في صبر عظيم ولكن؟
ايها الشعب المعطاء
الم يحن الوقت لإعطائهم البيضة؟
الم يحن الوقت لاسترداد العطاء؟