الاثنين، 28 سبتمبر 2020

 

                                    الثنائية الشيعية

                                     نقمة ام نعمة

فتى لم يتجاوز العاشرة من العمر، يهوى الترحال والتجول ويعشق ركوب المسافات، همه خوض المغامرات والاطلاع على كل جديد، فتى اعتاد مرافقة والده في عمله أيام العطلة الصيفية، فكانت من أجمل لحظات العمر التي لا تنتسى ابدا.

قرى وبلدات جنوبية تمتد على طول حافة نظر العيون الصغيرة، نبتت ما بين الشجيرات وبعض اطلال الماضي الغابر، انها بلدات الجنوب اللبناني العامرة بأهل الكرم والضيافة والنخوة والكرامة. رجال اشداء وكهلة اذاقوا الزمان حلاوة الشباب فدعاهم الى قيلولة تحت شرفة منزل او شجرة احتمت ببعض اسلاك الطابو التركي، او خيمة من هياكل الأسواق الشعبية الجميلة، وكم كنت فرحا عندما كان يحالفني الحظ بجلسة صغيرة على حجر تُرك امام مقعد من يدير جلسة الذكريات ومراجعة الدفاتر.

صيفية تلوى أخرى والفتى يتعمق في معرفة التضاريس والوجوه، وتتراكم لديه قصص وحكايات عن اهل المنطقة وعاداتهم وتقاليدهم، وتنحت في الذاكرة أسماء وأسماء للكبار والصغار وها هو بعد حين على السنة الجميع ابن الشيخ أبو نجيب سائق شاحنة الاشغال العامة (النافعة) كما كان يطلق عليها، هكذا كانوا ينادونني وهكذا تمت معرفتي بهم وأصبحت فتى عديسة تارة وميس الجبل تارة أخرى وبنت جبيل وبليدا، قرى متناثرة بطرقاتها المرقعة بالإهمال وساحاتها المشوهة بالوعود. نعم لقد زادتني تلك المعرفة ببؤس وشقاء فوق ما انا عليه من اذلال ومرارة جراء صك اتفاق القاهرة المشؤوم وكأنه كتب علينا نحن أبناء الجنوب ان نعيش سواد الأيام ولعنة الاقدار. نعم هذا هو انا بالذات الذي عرفت الجنوب واهل الجنوب منذ نعومة اظافري، ويا نعم المعرفة ويا نعم الصداقة ويا نعمة الوصل والتلاقي.

لم اعر الطائفية أي اهتمام ولم يكن المذهب يعنيني ابدا حتى اننا كلنا تجاوزنا تلك الكلمات الى حين موعد استذكارها بانتخابات نيابية كل أربع سنوات، وهكذا نعيشها يوما وتموت سنوات. تلاقت الصلوات مع المتدينين واشتدت اوصر الالفة والمحبة مع العلمانيين وتوحد فرح الأعياد وانتصر العيش المشترك دون ان نعيه او نتعرف عليه، الى ان قضى الله امرا ودخلت السياسة العمياء تنهش جسد المواطنة وبدأ الانتماء يعوج والولاء يتغير وبدأت حكاية الأديان وفرحة التبشير وصولا الى قدسية الحجر والوهية البشر.

البقاع والجنوب ، ثنائيان جغرافيان شيعيان امسكا بورقة الفقر والحرمان والإهمال طيلة سنوات منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا، ربما عن قصد او غير قصد تُركت تلك المناطق دون انماء ودون خدمات لأسباب قد نجهلها او نعلمها ولا نبوح بها حفاظا على التوازن العائلي واستمرارية النفوذ الاقطاعي ، ولكن الحقيقة ان الدولة لم تكن المسؤولة الوحيدة عن هذا التردي بقدر مسؤولية زعماء تلك الثنائية الجغرافية وهما الثنائي الاقطاعي السياسي الشيعي كامل الاسعد في الجنوب وصبري حمادة في البقاع ، وهما اول غيث الثنائية التي استمرت حنى يومنا هذا.

ان بؤس الأطراف حرك الهجرة الداخلية سعيا وراء لقمة العيش، فكان الانتقال العشوائي باتجاه العاصمة وخاصة من شيعة الجنوب بعد تردي الأوضاع الأمنية علاوة على الوضاع المعيشية وذلك من جراء الوجود الفلسطيني المسلح على ارض الجنوب وبدء معركة الاشقاء عندنا. وهكذا برزت الضاحية الجنوبية كأحد أبرز المواقع الجغرافية في بيروت والتي ضمت الالف من المهاجرين الشيعة من مختلف المناطق اللبنانية، بالإضافة الى بعض المناطق الأخرى كالكرنتينا والنبعة والمسلخ والتي انتهت خلال الحرب اللبنانية.

سيطر الثنائي الشيعي على القرار الشيعي طيلة الحكم الرئاسي في الجمهورية الأولى، الى ان سطع نجم الامام المغيب سماحة الامام موسى الصدر وتأسيسه لحركة المحرومين عام 1974 التي سرعان ما تحولت الى حركة امل. ان حقبة الامام الصدر والتي لم تدم طويلا حتى تغييبه عام 1978 ناهضت أسلوب الثنائي الشيعي آنذاك بالتبعية للمارونية السياسية مقابل النفوذ والاستمرار، وثبتت الولاء الشيعي للبنان كوطن نهائي وقدمت العيش المشترك على كل شيء من خلال الحرب على الاقطاع السياسي والاجتماعي والاقتصادي ،ولكنها اصطدمت بتفاوت الرأي الشيعي ما بين مؤيد للدخول في الحرب اللبنانية مع الفلسطينيين واليسار(شيعة البقاع وبيروت) ومن يرفض الخوض في هذه التجربة شيعة الجنوب)، ولكن تحول المحرومين من حركة اجتماعية إنسانية الى حركة سياسية أفقدها زخمها الحقيقي ووضعها على حافلة الاتجاه المعاكس بالولاء والارتباط بنظام البعث السوري على انها يده المطلقة في الساحة اللبنانية.

اذاق الوجود الفلسطيني المسلح في الجنوب الامرّين للشيعة من خلال زيادة الأعباء عليهم في قضية لم تكن يوما قضيتهم ولا ببالهم ولا على جدول أعمالهم الممتلئ أصلا بأعباء إرضاء الزعيم وحاشيته. لا يعنيني هنا من يكتب التاريخ ولا يعنيني هنا من يقص علينا استراتيجيات الشيعة المؤيدة لهذا او ذاك وخاصة قضية الأمة، انما ما يعنيني هنا هو الحقيقة التي عشتها سنوات طويلة بين الجنوبيين كهلة ورجالا، شبابا وشابات عرفوا أخيرا ان ما هم عليه ليس ما ارادوه، وان قرارهم السياسي اسير تطلعات الاقطاع وان حرية الرأي عندهم ستتحرر قريبا، وهذا ما ظهر جليا مع بدء الاتصال العلني بإسرائيل عام 1976 وخلال عملية اجتياح لبنان عام 1982 حين استقبل الجيش الإسرائيلي كجيش مخلص من براثن السلاح الفلسطيني.

ان علاقة الشيعة(الجنوب) بإسرائيل ليست خافية على احد وهي منذ قيام الدولة العبرية اتخذت اشكالا مختلفة من الخلاف الدموي(حولا) الى التعاون الأمني والاستخباراتي وذلك حسب معطيات المرحلة ،وصولا الى عام 1976 حين انطلقت مرحلة التعاون العسكري المباشر  تحت ما يسمى بالميليشيا الحدودية تحت قيادة الرائد سعد حداد .افواج من الشباب الشيعي تم تجنيدهم وتدريبهم على يد ضباط الإسرائيليين وداخل الأراضي الإسرائيلية ولكنهم سرعان ما انقلبوا وهاجموا من جندهم ودربهم (معركة الخيام عام 1977 ) وذلك تحت تأثير وضغط منظمة التحرير الفلسطينية وباقي اطراف الشيعة الآخرين. بالرغم من كل هذا بقيت الغالبية العظمى على نهجها الجديد في التحرر من الاقطاع ومن الثنائيات والعائلات حتى انهم شكلوا العامود الفقري المقاتل للجيش الجنوبي. نعم وأخيرا قرر باراك الانسحاب من الجنوب تاركا الشيعة الاحرار لقمة طيبة بفم حوت الثنائية الشيعية الجديدة.

ثنائية شيعية على أنقاض اختها برزت على دم أبنائها وعلى تفاوت ولائها ما بين دمشق وطهران وكلاهما أمعن في تصفية القضية الفلسطينية بالطرق المناسبة له. حزب الله في الجنوب قطع كل يد فلسطينية تنوي المساس بإسرائيل ومنع كل تحرك ضد إسرائيل لا يمر عبر البوابة الإيرانية. ولا ننسى انتفاضته وانقلابه على اخته حركة امل وتصفيتها وقتل ثلاثة من قادتها وكسر شوكتها وجعلها تتقوقع في بعض مناطق صور والنبطية الى ان زالت كليا عن خارطة الجنوب العسكرية (معركة جرجوع وعربصاليم). حركة امل في بيروت حاصرت وجوعت وقتلت الفلسطينيين في شاتيلا وبرج البراجنة في أعنف حصار وقتال ضد الفلسطينيين، فأين القضية الفلسطينية في قاموس الثنائي الشيعي؟ أضف الى ذلك خروج الثنائي الشيعي كليا عن مبدأ نهائية الوطن للإمام المغيب، ليستبدل بالولاء الكامل والمطلق، امل لسوريا وحزب الله لإيران مع تحيات الوطن الجريح.

ضعفت سوريا بعد اشتعال الثورة فيها او الثورات المتعددة الاتجاهات اذا صح التعبير ودخلت ايران بقوة في المستنقع السوري عبر عملائها في لبنان (حزب الله) ، تارة من اجل حماية المقدسات وتارة من اجل حماية لبنان من عدو مجهول ربما من( راجح الرحابنة)،واكبر دليل على استهتار الحزب بالوطن هو قصة القضاء على جبهة النصرة وداعش في البقاع اللبناني بعد جولات قتال شرسة كما قالوا من دون جريح او جثة واحدة للإرهابيين الإسلاميين .نعم ومع وصول الاستهتار الشيعي بكرامة اللبناني وبشرفه وبوطنيته تعود جثث المقاتلين بأهازيج الولاء والطاعة لمرشد الثورة في ايران تتبعها حفنة من دولارات غسيل الأموال و تجارة المخدرات متكفلة بسكوت الأمهات الثكلى والآباء المفجوعين. ولكن الفاجعة الكبرى هي بسكوت هؤلاء القوم ومواصلة الدعم وتقديم الأرواح لمجرد ان السيد طلب ذلك او ان مصلحة الثورة تقضي ذلك او ان نظام الأسد يطلب ذلك، فأين مصلحة لبنان في كل ذلك؟

نعم مع دخول إيران الوحل السوري ازدادت قوة حزب الله وازدادت سلطة الثنائية الشيعية ولكن على حساب حركة امل، وأصبحت الثنائية أحادية بالقرار والفعل وما سياسيّ امل الا مجرد واجهة وغطاء للحزب وما قصة المناصفة بينهما الا مجرد حصة تعطى على قدر ما تعطي تلك القيادات وتغطي وتساهم في المجهود الانقلابي على كل شيء اسمه وطن او شعب لا يؤمن بالحسينيّات ولا بسلطة الله على الأرض. فأين الوطنية والعيش المشترك؟ وهل نحن في نعمة نجهلها ولا نشعر بها او اننا في محنة تعودنا على المها؟

ضربتم عرض الحائط بكل شيء وتخطيتم المحظور وبسطتم الهيمنة على كل شيء بفضل جهلة وحمقى من مسيحيين هدفهم الوحيد هو الوصول الى السلطة ولو بلا كرامة وبلا شرف وبلا عزة. هذا هو ما ارادته الثنائية الشيعية متسولون وشحاذون بلباس مسؤولين وبلغة الطاعة والامتثال.

هذه هي الثنائية الشيعية من الطبقة العليا لمبنى الطائفة الكريمة والتي نجل ونحترم، ولكن اين هي الطبقة الدنيا؟ وأين هي قوى الشعب العامل البسيط الذي يدفع؟، اين هم الذين يتألمون ويجوعون ويُحتقرون في الفعل وفي النتيجة؟ اين أنتم أيها الشيعة الاحرار؟ الى اين سائرون والى اين تؤخذون؟ وبالتالي تدركون عمق الهوة بينكم وبين الشعب اللبناني؟ تدركون انكم على قاب قوسين من ان تصبحوا مرتزقة في الوطن؟ مرتزقة إيران في لبنان؟ نعم مرتزقة في الوطن لأنكم لا تعملون لمصلحة الوطن بل لإيران، وأكثر من ذلك بكثير باعتراف قادتكم بأنكم جزء من جيش الفقيه، وباعتراف اسيادكم بإيران بأنكم جزء من الثورة وذراع الثورة على البحر. نعم اقتربتم من المرتزقة لأنكم في سوريا لمصلحة الغير وأنكم في اليمن لمصلحة الغير وإنكم في البحرين لمصلحة الغير وإنكم في كل مكان تصلون اليه تنشرون الفساد وتزرعون الرعب لا من اجل بناء الوطن وحماية الوطن بل من اجل إيران. إذا بالله عليكم من أنتم بحق؟ وتأتون وتتبجحون بأنكم حماة لبنان من الصهيونية؟ والجميع يعرف ويعلم جيدا بانكم رهن إشارة الفقيه وعلى بورصة حساباته وان بيعكم عاجلا ام آجلا سيتم لمن يدفع أكثر؟

اخي الشيعي

توقف للحظة، ليس بالضرورة ان تكون خياراتنا متطابقة، لك ما تختار ولي ما اختار، ليس بالضرورة ان يكون عدوي عدوك ولا صديقي صديقك، ولكن الخيار المشترك الوحيد هو اننا أبناء وطن واحد للجميع دون استثناء وله علينا ان نحميه ونبنيه بالولاء الكامل والانتماء الابدي.  توقف وراجع الاحداث وتبين الحقيقة من الكذب، ترجل من جاه الهيمنة الفارغ واعرف حجمك الطبيعي بأنك مواطن واخ وشريك، نتألم لألمك ونسعد لسعادتك، نختلف في أمور ونتفق على أكثر، انت جزء من الكل ولا نفرط فيك مهما ابعدوك ومهما علا شأن من يحرك فيك التعالي والطبقية والتفرقة المذهبية.

استبدل الثنائية البالية بثنائية جديدة انا "لبناني شيعي".

  ستعود نعم ستعود مجددا الى أحضان الطبيعة التي ولدتك ابن الجنوب البار، وابن البقاع الابي،

 ابن لبنان الابدي.

الخميس، 24 سبتمبر 2020

 

صاحب النيافة

غبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي حفظكم الله

تحية وطنية

كتب الله علينا ان ندفع الاثمان وكأنه يمتحن فينا الصبر والايمان.

اعزيكم وأعزي كل لبنان من خلالكم بالمصاب الجلل الذي هز الضمير والقلب وجرح فينا كبرياء الانتماء والولاء لهذا البيت الصغير الدافئ.

صاحب النيافة

سمحت لنفسي بأن اكتب لحضرتكم وانا المشاهد البعيد القريب في آن وشعرت أن من واجبي ان اضع بين ايديكم حقائق ووقائع جرت منذ زمن ليس ببعيد وها نحن اليوم نقطف ثمار تلك القرارات والمواقف.

اكتب لحضرتكم بعد تجربة قاسية قضيتها في الجيش الجنوبي لأكثر من أربع وعشرين عاما، كنت خلالها الشاهد أحيانا والفاعل أحيانا أخرى والمخطط في بعض المراحل، راجيا ان تسهم هذه العبارات الصغيرة في صياغة موقف او قرار نحن بأمس الحاجة اليه ولو فاتنا بعض الوقت.

ان التمسك بمبدأ العيش المشترك والوطن النهائي لا يمنعنا من ابداء بعض الملاحظات على أصحاب القرار او من يدعم مسيرة الحكم وخاصة بما يتعلق برئاسة الجمهورية والتي نكن لها كل احترام وتقدير، ولكن مسلسل قرارات هذه الرئاسة هو المسؤول الأول عن ايصالنا الى ما نحن عليه. وتاليا اعطى صورة غير واضحة وغير نقية وغير ثابتة لجيراننا الإسرائيليين والذين بدورهم اطلعوا حلفائهم الاميركيين وغيرهم عليها مع بعض التعديلات الضرورية من وجهة نظرهم، وهكذا بدأنا نلمس منذ ذلك الحين التغيرات الفجائية وغير المنسقة في المواقف الأميركية تجاه لبنان. وكلها في أرشيف القيادة السياسية والعسكرية الاسرائيلية منذ العام 1982.

أولا: نقض اتفاق نهاريا المبرم بين رئيس الحكومة الإسرائيلية مناحيم بيغن وقائد القوات اللبنانية والذي أصبح رئيس الجمهورية اللبنانية المنتخب بشير الجميل، بغض النظر عن فحوى الاتفاق فقد تم تجاهله كليا وهذا ما دفع لبنان ثمنه غاليا خاصة حرب الجبل التي ما زلنا نعاني من نتائجها ليومنا هذا.

ثانيا: قرار الرئيس السابق امين الجميل بالذهاب الى دمشق والوقوف على رأي او "أوامر" الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد أدى بنتيجة الامر الى عدم التوقيع على اتفاق السابع عشر من أيار اتفاق السلام بين لبنان وإسرائيل عام 1983 وبالتالي اعادنا هذا القرار الى نقطة البداية واستمر النزيف.

ثالثا: استلام العماد ميشال عون السلطة كرئيس حكومة بعد انتهاء مدة ولاية الرئيس الجميل وما تلاه من كر وفر وحروب نتيجة القرارات الخاطئة، الرئاسية والمسيحية وخاصة المارونية والتي لا زلنا نعاني منها حتى اليوم. وهذا تحديدا ما اود الاستفاضة بشرحه لاحقا.

رابعا: استشهاد الرئيس المنتخب رينيه معوض كان لتغييب الدور البطريركي وما تلاه من انتخاب الرئيس الراحل الياس الهراوي كان تحصيل حاصل للهيمنة السورية على لبنان.

خامسا: حقبة الرئيس العماد اميل لحود كقائد للجيش وكرئيس للجمهورية والتي يمكننا اختصارها بجملة واحدة " جعل الدويلة اقوى من الدولة وجعل حزب الله اقوى من الجيش".

خامسا: المجيء بالرئيس ميشال سليمان نتيجة اتفاق الدوحة جعل من الرئاسة الأولى رهينة مقيدة بأجندة خارجية وأدوات داخلية أدت بالنهاية الى اضعاف العهد واضعاف مكانة الرئاسة الأولى.

سادسا: فخامة الفراغ الرئاسي وهو الرسالة الواضحة من القوى المسيطرة على الدولة وهي حزب الله ومن ورائه إيران وسوريا واعوانه المحميين بمظلته واقصد الأحزاب اليسارية اللبنانية، هذه الرسالة الموجهة للمسحيين عامة وللبطريركية المارونية خاصة ومفادها بأننا نحن من يقرر من الرئيس وليس أنتم وطالما ترفضون ما نقترح فالفراغ هو سيد بعبدا، وهكذا أمضى الوطن عامين تقريبا الى حين وضع العماد عون على الكرسي بانتخابات ديمقراطية اقل ما يقال فيها "سخرية ومهزلة".

صاحب النيافة

قصتنا مع العماد عون بدأت عام 1988 عندما استلم رئاسة الحكومة اللبنانية بعد انتهاء ولاية الرئيس امين الجميل، فكانت زيارات عديدة للجنرال أنطوان لحد للقصر الرئاسي وخاصة ابان حرب الإلغاء بين الجيش اللبناني والقوات اللبنانية، وبالتالي ارسالنا للجنود وللمتطوعين من أبناء الجنوب وخاصة الشريط الحدودي كما كان يطلق علينا، الى قصر بعبدا للمساهمة في تأدية بعض الواجب تجاه الوطن. نعم والجميع يعرف بوجود كتيبة للجيش اللبناني في جزين خاضعة لسيطرتنا جغرافيا وعسكريا وكنا نحن من نمدها بالمؤن والذخيرة وأحيانا بالرواتب عند الحاجة، مع العلم بأن تنسيقنا للمواقف مع الرئاسة الأولى والكرسي البطريركي كان يمر عبر الموفد البابوي الدائم في جزين.

 حرب الاخوة في الشرقية واتفاق الطائف زادا حدة الخلاف المسيحي ،ونحن اقرب الناس الى صناع القرار في تل ابيب وواشنطن بالتنسيق مع دمشق فكانت النهاية التي عرفناها قبل حدوثها، فقد أرسلت انا شخصيا رسالة شفوية من اوري لوبراني(المسؤول عن الملف اللبناني لدى الحكومة الإسرائيلية) الى العماد عون عبر ضابط في الجيش اللبناني يخدم في منطقة جزين ، هذه الرسالة ومفادها بأن الضوء الأخضر قد اعطي للسوريين بالهجوم على القصر الجمهوري للإطاحة بالعماد عون وقد قبل العماد اميل لحود بالمهمة وهي مهاجمة القصر الجمهوري اللبناني بعد وعده بالرئاسة لاحقا مكافأة على عمله. رسالتنا له كانت بالقبول باتفاق الطائف ومباركته وتأييده على ان يصار لاحقا الى انتخابات رئاسية تكون فيها حظوظه شبه كاملة ، وله الدعم الإقليمي والدولي لإنهاء الحرب اللبنانية والبدء بالإعمار وبرسم سياسة خارجية تتكيف مع المرحلة الراهنة واولى الخطوات التشجيعية كانت انسحابنا من منطقة جزين أولا كبادرة تشجيع وولاء وبعدها الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب وحل الجيش الجنوبي والحاق من يريد من عناصره بلواء إقليمي يعمل على الحدود الدولية، مع العلم بأن هذه المبادرة الخفية كانت ضد رغبة الرئيس السوري حافظ الأسد والذي رفض تاليا وبشدة عرضنا على الدولة اللبنانية انسحابنا من جزين عام 1992 . غادر الى فرنسا وغادرت معه كل امالنا بوطن حر كريم، وبدأت مرحلة اليأس الجنوبي والانهيار النهائي عام 2000.

عام 2004 تكلمت مع العماد عون شخصيا عبر هاتف صديق قديم من بلدة القليعة الجنوبية يقطن في باريس ومن اشد المقربين للعماد عون ويدعى الشيخ كلوفيس فرنسيس.

قال لي العماد عون بالحرف الواحد:

يا ابني انتو فتحتوا عينا وتاج راسنا وفخر كل لبناني شريف، قدمتو تضحيات أكثر من أي فئة في لبنان من اتفاق القاهرة وجاي، انا ميشال عون بشرفي العسكري ما راح اقبل الا ان ترجعوا من بوابة فاطمة اللي طلعتوا منها مرفوعي الراس معززين مكرمين، وهذا وعدي الكن.

شكرته مع بعض الدموع وبدأنا العيش على أحلام العودة الكريمة والكل يعلم ما حصل لاحقا.

صاحب النيافة

ربما فات على البعض ان العماد عون كان قد انتهى عسكريا عند لجوئه للسفارة الفرنسية وانتهى سياسيا عند توقيعه ورقة التفاهم مع حزب الله في مار مخائيل.

اورت ما أوردت لألفت نظر غبطتكم بأن الأخطاء الرئاسية تطلب الكثير لشفائها، وان الرئيس الضعيف لا يضعف الرئاسة فقط بل يمزق وحدة الوطن، وبالتالي يسمح ضعفه او تهاونه بتغلغل الغرباء والفاسدين الى جميع مفاصل الدولة ليصعب بعدها الإصلاح او التغيير وكذلك يقلل من احترام المجتمع الدولي ويصبح التعامل مع الوطن كالتعامل مع عقار دون ورثة، ناهيك عن بدء تفكير البعض بإعادة صياغة المناصفة الى مثالثه او أكثر.

ان دور بكركي وعبر التاريخ اثبت ان رضى الكرسي البطريركي هو الحجر الأساس في قوة وثقة الناس بالرئاسة الأولى، والجميع يتطلع الى دور أكبر وأكثر جدية وأكثر قوة وأكثر تأثيرا على عملية اختيار الرؤساء من الطائفة المارونية الكريمة. ان الاختيار الحقيقي يبدأ عندكم قبل التوقيع النهائي في مجلس النواب ونحن وبكل احترام نتمنى ان تأخذوا هذه الآراء المتواضعة بعين الاعتبار لأنها تعكس فعلا آراء المحيط المتابع والمهتم، ونحن نتطلع الى دور أكبر من الرضى ليصل الى تصحيح الانحراف وتصويب الانزلاق.

-التكرّم بانتقاء الرئيس القوي المناسب بغض النظر عن شعبية هنا او حزبية هناك.

-التمني بالابتعاد قدر الإمكان عن المؤسسة العسكرية وافهام قائد الجيش ان لا مكانة له بالرئاسة مهما حصل، ذلك لان غالبية قادة الجيش يعملون على امل الوصول للرئاسة وبالتالي فهم يتخلون عن بعض المبادئ لإرضاء هذا الزعيم وكسب تأييد هذا الحزب.

- التزام بكركي بكل تسوية تخص الرئاسة الأولى وذلك عبر انشاء لجنة خاصة تضم مطارنة وحقوقيين ودستوريين ونقابيين وفئات المجتمع المدني تكون مهمتها غربلة الأسماء ووضع شروط القبول البطريركي بالرئيس العتيد.، وانا على يقين بانكم ستلتقون المذاهب الأخرى وسط الطريق.

نعم هذا من شأنه ان يعيد الثقة بالرئاسة الأولى ويعيد ثقة الأشقاء العرب بدور بكركي وبالتالي عودة المجتمع الدولي لاحتضان لبنان. وأحب ان الفت نظر نيافتكم بان الانتخابات الرئاسية القادمة هي جسر العبور من وضعية التبعية الى الاستقلالية، وأخشى أن وصول أيا من المرشحين المحتملين للرئاسة سليمان فرنجية او جبران باسيل سيكون الضربة القاضية للنفوذ الماروني في لبنان وبالتالي للوجود المسيحي ككل وصولا الى لبنان ككيان وكدولة، وذلك لانهما وجهان لعملة واحدة. لنبدأ بالحياد بانتقاء الرئيس العتيد من خارج الطبقة السياسية نهائيا بالاعتماد على النظافة والنزاهة والاستقلالية.

صاحب النيافة

ان ما حصل بمرفأ بيروت مؤخرا هو ضربة قاضية لوجود لبنان كوطن والحديث عن تقصير هنا واهمال هناك ليس الا ذر الرماد بالعيون للتغطية واستهلاك الوقت والعمل على عامل النسيان. وسوف تظهر الحقيقة ولو بعد حين وسيعرف الجميع ان ما جرى بالمرفأ هو جزء من عمليات حزب الله العسكرية وان العنبر رقم 12 ليس الا قاعدة عسكرية متقدمة جدا في تجهيز واعداد آلة الحرب الإيرانية ضد إسرائيل.

ان راس الفساد في لبنان هو السلاح، وان من يغطي الفساد هو السلاح، فلا يجرؤ فاسد ولا سارق ولا مرتشي على عمل ما، دون تغطية وحماية السلاح وهذا ما اثبت المقولة لحزب الله: لكم تعملون ما تشاؤون ولي القرار السيادي النهائي.

لا يمكن لسلاح حزب الله الاستمرار لولا تغطية طائفية او مذهبية تخرجه للعلن وكأنه جامع الامة وحامي الأرض والعرض، وان القليل من السنة او الدروز لا يشكل الفرق المطلوب ولا يشكل العلامة الفارقة عالميا قبالة التغطية المسيحية الواسعة التي حظي بها من قبل العماد عون كرئيس للجمهورية والتيار الوطني الحر وتكتل التغيير والإصلاح كحزب سياسي. هذه التغطية التي طالما تمناها الحزب أعطت إشارة سلبية للجيران وللعالم بأن الاتجاه المستقبلي للبنان ليس كما ما هو معلن ولا يبشر بالخير وان التعايش المشترك يلفظ أنفاسه الاخيرة وبات مشروطا بحكم التحالف والمحاور. ان التأثير السياسي للجار القريب هو اشد وقعا ان لم نقل خطورة من التأثير العسكري وذلك لإمكانية نقله الى عواصم القرار ما يراه وما يشعر به وما تمليه عليه المصلحة العليا، وبالتالي تأتي النتائج اما بالابتعاد او المعاقبة او سحب الثقة او بترك الساحة اللبنانية.

لذلك ان أولى الحلول الضرورية والملحة هي انهاء الانقسام المسيحي وخاصة الماروني والعمل على جمع الشتات المسيحي تحت مظلة الوطنية ومصالح الوطن قبل الرئاسة. وإننا اليوم على مفترق طريق خطير ومصيري، اما ان يولد لبنان الذي نريد او ينتهي الى أحضان حزب الله قرارا وسيادة ورئاسة وكل شيء مع آخر مسمار في نعش المناصفة، أضف الى ذلك سأم المجتمع الدولي منا وخاصة اننا اليوم لسنا بأولوية الملفات رغم الزيارات والدعايات وخطابات التأييد والدعم. المسيحيون هم رأس الحربة فان زالت التغطية المسيحية عن حزب الله لن يبقى له مساحة للمناورة اما القبول او اللجوء الى السلاح، فان قبل فكان التغيير السياسي المنشود، وان نزل الى الشارع بسلاحه ستكون نهاية المقاومة "مظلة سلاحه" ونهايته الاكيدة لان العالم لن يقف ابدا مكتوف الايدي وخاصة العالم السني "الجديد". آمل ان نستبق الأمور لان المصالح الإقليمية تتقدم على كل مصلحة داخلية حتى وان كانت على حساب دماء الأبرياء. أحب ان الفت انتباه غبطتكم بتحول حزب الله من مقاومة مسلحة الى سلطة مسلحة في دولة سلاحها الانقسام ونهجها الفساد وشعارها اضحوكة النأي بالنفس، وما يترتب على ذلك من تداعيات سياسية ومصيرية على لبنان. وعلى سبيل المثال لا الحصر ربما لا يعني الإسرائيليون من يمسك بالسلطة في بيروت طالما ان الحدود الشمالية ممسوكة وهادئة مع بعض السماح بطلقات تذكيرية في الملعب المشترك " مزارع شبعا".

صاحب الغبطة

ان التغيير الحقيقي يبدا من الشارع اللبناني، شارع 17 تشرين والذي كسر كل الحواجز الطائفية والمذهبية والمناطقية ولكنه سيبقى ناقصا ان لم تتحد كل القوى وخاصة المسيحية على خط واحد وهدف واحد. لا أحد يراهن على التغيير من الخارج ولن يأت ابدا ان لم نتحرك داخليا، وهذا يصب في خانة طرحكم الحياد الإيجابي الفعال النشط وللأسف لا حياد بوجود السلاح ولا حياد بوجود أحزاب بولاءات خارجية، ولا حيادا بعدم وجود نضوج وطني حقيقي فالحياد هو جوهر التغيير، والتغيير نحو الحياد هو الهدف الإستراتيجي والذي من بعده سيأتي كل تغيير باتجاه السلاح غير الشرعي من حزب الله واتباعه حتى السلاح الفلسطيني، وبزوال السلاح يزول الفساد وينتهي الغش ويعود القضاء الحر، وتحيا الديمقراطية من جديد ،فالفرصة متاحة الآن وربما ومع الأسف جاءت ضربة المرفأ لتوقظ النائم وتعيد الشارد وتصوب المعوج. نعم لنستفيد من المناخ العربي القائم وخاصة ما صدر أخيرا من تقارب خليجي -إسرائيلي وفتح أبواب السلام السني إذا صح التعبير مع الدولة العبرية ونشد أواصر اللحمة المسيحية- المسيحية أولا ومن ثم المسيحية- السنية ثانيا وبالتالي تكوين ثلاثية لبنانية وطنية مع الدروز بمواجهة الثنائي الشيعي الذي لن يتنازل ابدا عن السلطة والسلاح والهيمنة بالطرق السهلة.

الخوف وكل الخوف بأن يعود بنا التاريخ الى الوراء أيام تلزيم لبنان لسوريا فقد لزمنا ثلاثون عاما للتخلص منه، نعم الخوف بأن يُعاد هذا التلزيم مجددا الى إيران وتعود عقارب الساعة الى الوراء. هذا بالإضافة الى عامل التغيير الجديد بالنسبة للسلاح الفلسطيني داخل وخارج المخيمات والذي بدأ بتحوله الاستراتيجي من السلاح "السني" خلال العقود الماضية الى سلاح المحور الإيراني تارة والمحور التركي تارة اخرى وما يترتب عليه من مخاطر على الساحة اللبنانية الداخلية.

صاحب النيافة

ان موضوع الحياد هو حلم كل مواطن مخلص آمن بنهائية الوطن وبقدسية الرسالة اللبنانية. ان الحياد ينطلق من صرخة حق، ودعوة لوحدة صادقة، وقناعة بأن خلاص الوطن يكمن بعودة أبنائه اليه وعودته لاحتضانهم" الولاء والانتماء "أولا، وبعدها بقرار دولي يدعم هذا التطلع، وان قول البعض بأنه يحتاج الى مشاورات واجماع وما الى ذلك من تسميات ما هي الا مضيعة للوقت في وضع العقبات والعراقيل، وهنا نسأل صاحب هذا الرأي: هل اخْذُ لبنان الى المحاور والانتماء الخارجي وخوض الحروب كان نتيجة مشاورات وتفاهمات داخلية واجماع وطني؟

ولكن وبما اننا الجهة الضعيفة امام السلاح في لبنان، لنعلن للجميع بأننا مستعدون للحوار وإننا على استعداد تام لمناقشة كل امر استراتيجي ولسنا من دعاة الاستفراد بالقرارات ولتكن سابقة تجر بعدها أخلاقيا وادبيا الفريق المسلح والمسيطر الى بدء حوارات ربما تكون مثمرة في النهاية. ان رفض الانتماء والولاء للخارج هو الحياد البناء المنشود، والابتعاد عن المحاور كفيل بإنهاء الطائفية والمذهبية في لبنان دون عناء البحث والحوار.

صاحب الغبطة

بالنسبة الينا في إسرائيل فإننا نعيش الوطن لحظة بلحظة ونتألم لألمه ونسعد لراحته، ونحن لا زلنا عند قسمنا وولائنا وانتمائنا، وها نحن اليوم نسعى ونكد في بلاد الغربة من اجل أولادنا لتربيتهم التربية الصحيحة ولتعليمهم القيم اللبنانية العريقة، والاستفادة من التعليم العالي المتاح للجميع لخلق مجتمع يتمتع بكامل المواصفات العلمية والحضارية والأخلاقية والاجتماعية، ولنكوّن جسرا مستقبليا من اجل السلام الذي طالما حاربنا من اجله. لقد قمنا بتأسيس جالية لبنانية تجمع تحت مظلتها كل لبناني وكل متحدر من أصل لبناني وذلك لرص الصف والتعاون والوقوف جنبا الى جنب وقد نالت الجالية الترخيص القانوني واصبحت جسما رسميا في المجتمع والدوائر الحكومية.

 يؤسفنا ما نسمع أحيانا أصواتا من هنا ومن هناك تتاجر بقضية عودتنا وتكثر الاقتراحات والتمنيات، وكأننا حُذفنا من خارطة الرأي والموقف. اننا لن نقبل بأي عفو ابدا ومن أي جهة صدر سواء كان جمهوريا او من خلال مجلس النواب وذلك لان العفو يصدر لصالح من ارتكب جنحة او جريمة ونحن لسنا من هذا ولا ذاك، ومطلبنا هو الكف عن اثارة هذا الموضوع حتى يأتي من هو حر ومستقل وصاحب قرار ويأمر بالكف عن ملاحقتنا وحرية العودة غير المشروطة. يكفينا ما دفعناه ثمن التهجير والابعاد، يكفينا ما دفعناه ثمن القضاء الفاسد والاحكام الظالمة بحقنا، وكلنا امل بانكم صوت حقنا وخلاص قضيتنا ونهاية مأساتنا.  وهنا لا بد لي من شكر غبطتكم على اهتمامكم الابوي بنا ومد يد العون في كل مجال مُتاح وخاصة إبقاء التواصل مع الوطن الام من خلال المطرانية الكريمة في حيفا وبشخص راعيها الذي نجل ونحترم.

ارجو المعذرة فقد أطلت قليلا وارجو ان تتقبل اعتذاري ثانية ان أخطأت في بعض التعبير او الإيحاء او تجاوزت كلماتي حدود اللياقة راجيا ان يخرج هذا الوطن من ظلمة الاسر، وكلنا امل بحكمتكم وحسن ادارتكم راجين من الله عز وجل ان يحفظكم ويحفظ لبنان.

 ان من اُعطي مجد لبنان لا يعطي الا الفخر والعزة والكرامة.

 

    نبيه أبو رافع                                             5\9\2020

رئيس الجالية اللبنانية

     في اسرائيل