الأربعاء، 30 مايو 2012

تحرير ام بداية التعثير

                       
ما اتعس الناس التي تدّعي ما ليست عليه ، وما اسعد الناس التي ترضى بما هي عليه ، فما بين الادعاء والرضى تكمن جوهرة النفس ونقاء الروح وحسن السريرة . ان القناعة كنز كما يقال ولكن القلة القليلة التي تعرف اين يكمن سر هذا الكنز فعلا . ان الكنز الحقيقي عند الشعوب هو في وحدتها وصون ارضها ومجتمعها وحماية افرادها ، وبالتالي يكمن كنز الارض بشعبها وبساكنها ولا قيمة لأرض خالية من الحياة ولا قيمة لشعب خال من الولاء . اننا وعلّنا نهتدي ، وعلّنا نقتنع ، ونصغي ونفهم باننا ابناء الوطن الذي سيصبح شبه وطن اذا شح فينا الولاء لهذا الوطن.
نفض ابو علي عنه غبار السنين ، ومسح ذاكرة الايام علّه يرى بوضوح تلك الاوقات التي كان للإنسان فيها قيمة واحتراما ووجودا . تدحرجت دمعة مثقلة بالصبر والايمان بين تجاعيد عبث بها التعب ولونها القهر وقال :سقى الله ايام زمان عندما كان للمرء رأيا وللمشورة صاحبا ، وكانت الكلمة اقوى من السيف والخاطر اقوى من الكثرة ، سقى الله يا بني ايام كان العز والفخر لحملة الاقلام واحرف الطباشير، وتابع قائلا :
اسمع يا بني ، نحن الجنوبيون تعودنا على التضحيات ودفع الاثمان وسداد ديون الوطن منذ فجر الاستقلال . نحن الجنوبيون لطالما كنا الحلقة الدائمة والجاهزة لربط اواصر الالفة والمحبة ، حلقة امتداد التواصل والتلاقي والتعاون ، نحن الجنوبيون لطالما كنا السباقين الى صون الارض والعرض والكرامة ، ندفع للكل عن الكل ودائما بغنى عن الكل .
شدني حديث الحاج ابو علي وشعرت بأن رباطا قويا جذبني الى ذلك الكهل المليء بالعبر والحكم ، واردت في قرارة نفسي ان يفرغ ما يحتويه ذلك الكنز من الذاكرة علّنا نستطيع ان نُخرج منه طريقا صحيحا لنا ولأولادنا من بعدنا ، هذا التاريخ المليء بالتجربة بل بالتجارب علّه يهدي من يفتش عن تجربة .
يا بني ،،لقد ضقنا ذرعا بالذين يحاولون ان يصوروننا وكأننا الفئة غير المكتملة عقلا وتفكيرا واجتماعا . لقد عفنا الناس الذين يحاولون اجبارنا على التصديق  بأننا ما زلنا اطفال الغابة الاولين الذين يتكلمون ولا يفهمون ، يأكلون ولا يشبعون ، يتعلمون ولا يفقهون .
ناولت الحاج لفافة تبغ بعد جهد جهيد في تحضيرها حسب التقليد " العربي " وقلت له : يا حاج ،،لماذا هذا التشاؤم ؟ الحمد لله انت في ارضك وفي قريتك وبقربك اولادك واحفادك ، ما الذي يزعجك ولا يرضيك ؟
قال : لقد قيل ان الولد هو اغلى ما في الدنيا ، وقيل ايضا ان ما اغلى من الولد الا ولد الولد ، ولكن يا بني ان اغلى من كل هذا هو الوطن ،فما نفع الاولاد اذا كانوا من دون وطن ، وما نفع الاحفاد اذا فقدوا الولاء والانتماء ، صحيح انني في قريتي وبين اولادي ولكنني غريب وما اصعب غربة الداخل يا بني ،،،
رفع راسه قليلا وتابع :منذ الاستقلال ونحن غرباء في الجنوب لا نمت بصلة الى الوطن ولا الى شركائنا في بقية المناطق ، ولا نمت بصلة الى الدولة ولا هي بالمثل ايضا وبالتالي اصبحنا مواطنين مع وقف التنفيذ ، ثم جاء الفلسطينيون وشرّعوا عملهم المسلح ضدنا وضد اسرائيل حسب اتفاق القاهرة عام 1969  واصبحنا اكثر واكثر اسرى المزاج الفلسطيني واللبناني الثوري الثائر المنتفض ، وبتنا ورقة لعب سياسية ومذهبية اكثر منها وطنية وقومية لبنانية .انتهت منظمة التحرير وجاءت اسرائيل، نعم يا بني لقد استقبلناها بالأرز والورد على امل انقاذنا مما نحن فيه طمعا بالأمن والامان والهدوء وربما طمعا بقليل من الديمقراطية الحقيقية وبعض من حقوق الانسان . فوجئنا بان مصالح الدول اهم بكثير من وجود الامم والمجتمعات وهكذا هُجّرنا من جديد وبيعت نفوسنا في سوق الولاء الرخيص واُضطهدنا تارة من الخارج المحتل  وتارة من الداخل المعتل ، وانتهى بنا المطاف في عام 2000  حين انسحبت اسرائيل وازيح عنا ذلك الكابوس والحمد لله يا بني لقد اراحنا الله من كوابيس عديدة وها نحن تحت كابوس جديد غير كل الذي سبقه ، انه كابوس الكيد والنار كابوس الظلم والعبودية باسم الدين وباسم الوكالة الالهية ، كابوس يا بني لا تستطيع رفضه لأنك ان فعلت فبذلك ترفض الوصاية الالهية ، والبعثة المقدسة ، وان حصل وتصديت له اصبحت عميلا وجاسوسا وكافرا وناكرا للدين والمذهب والجماعة . هل اتضحت لك الصورة الآن يا بني ؟ وهل فهمت لماذا الشكوى مما نحن فيه ؟
لقد ظننا ان زوال الاحتلال سيفتح لنا صفحة جديدة مشرقة في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفي كافة المجالات ، ولكن فوجئنا باننا اصبحنا تحت احتلال آخر داخلي ، وهذا اصعب بكثير من احتلال اسرائيل او سوريا او منظمة التحرير الفلسطينية ، انه احتلال داخل البيت اللبناني نفسه احتلال الاخ لأخيه والاب لابنه ، سيطرة حارة على اخرى وبالتالي فئة على اخرى وهكذا تأتي غلبة طائفة وسيطرة مذهب وهذا ما نعانيه اليوم في لبنان . يقولون انه انقسام وانا اقول انه احتلال ، فالانقسام يحصل سياسيا وحزبيا وعقائديا وهو مسموح بين الفرقاء والشركاء ولكن بنفس الشروط والمعايير والمعطيات . لن يكون انقساما اذا وجد السلاح في يد واحدة ولن يكون سباقا للإصلاح السياسي والاجتماعي اذا كان السلاح نقطة الارتكاز ، انه الاحتلال بعينه فالقوي يحتل الضعيف ويسطر على خياراته كافة ، ولا دورا لمن يجري وراء الديمقراطية والحرية وبناء المؤسسات الحديثة العصرية ، في حين ان الذي يقبع وراء السلاح يشدنا كلنا بقوة هذا السلاح الى اتجاه واحد والى طريق واحدة رسمها هو وخطّ مفاصلها ومحطاتها دون الرجوع الى احد . انه واقعنا الحالي في هذا البلد وتراني اشكو واشكو واقول سقى الله الماضي حين كنا نشعر فعلا بالكرامة والفخر والولاء الوطني  .
اخي القارئ
اثنا عشرة عاما مضت على الانسحاب الاسرائيلي وكما يدعون في لبنان "العيد الثاني عشر للتحرير " حسب قاموس من يؤمن ويعتقد بانه فعلا حرر لبنان . سنوات مرت وانا اسأل اللبناني وخاصة الجنوبي هل هو حقا تحرير ؟ وهل انت ايها المواطن الجنوبي سيد نفسك ؟ وهل انت حرا مستقلا تستطيع عمل وقول ما تريد حسب ما يضمن لك القانون والحق العام ؟ام انك انتقلت من احتلال الى آخر والشكوى لغير الله مذلة ؟
ان احداث ما بعد عام 2000 ، بدءا بالمحاكمات غير العادلة وغير المنطقية مرورا بحرب العام 2006 وصولا الى "القمصان السود" واتفاق الدوحة ، كل ذلك كرّس احتلالا لا لبس فيه ، احتلالا مذهبيا وطائفيا وكل من يدعي غير ذلك فهو منافق وكاذب ومخادع ، وبكل اسف وصلنا الى ما وصلنا اليه ويأتي احدهم من خلف وهْمٍ وسراب ويقول انه " عيد التحرير " . اضف الى ذلك بأن كل لبناني يعلم بقرارة نفسه بأن تحرير لبنان يبدأ من الداخل ، من البيت من العائلة وبالتالي من الطائفة ، عندئذ لا خوف علينا من الخارج ابدا .
اخي اللبناني
انت يا حامل السلاح بالذات ، اقول لك من بعد تجربة مريرة وبكل مسؤولية : لقد حملت السلاح مرغما ومكرها ، والله لقد اطلقت الطلقة الاولى دفاعا عن النفس اولا وعن الوطن ثانيا ، لا انكر عظمة السلاح وتأثيره على الشباب ولكنه سرعان ما يتحول الى عبء يصعب حمله والى عادة سيئة يصعب التخلص منها ، نعم لقد كان اتعس يوم في حياتي ذاك اليوم الذي رفعت السلاح فيه بوجه اخي اللبناني وشريكي في الوطن ، وان اسعد يوم اتذكره هو اليوم الذي القيت بهذا السلاح جانبا وبغض النظر عن النتيجة .
صدقا اقول لك ، لا حلا مع السلاح ولا حلا من السلاح ، ولا انتصارا مع الهيمنة والكل خاسر ، فلا تجربوا ما جربناه سابقا ولا تعيدوا الكرة فالوطن لا يحتمل اكثر، حرروا انفسكم من قيود انتم وضعتموها ، حرروا انفسكم من التبعية ، من الولاء الاعمى ، من سياسات القرون الوسطى ، من العبث بالمصير، وانطلقوا نحو المستقبل بخطى ثابتة من الحرية والكرامة والاحترام المتبادل ولا ضير بالقليل من الديمقراطية ، هذا هو العيد الحقيقي وهذا هو التحرير المنشود .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق