الجمعة، 15 يونيو 2012

ديمقراطية اسرائيل بين الولاء والانتماء

 
التقيت بأحد الاصدقاء في  مناسبة عامة ، وبادر فورا الى تهنئتي على بعض الكتابات ووضع الاصبع على الجرح كما يقولون ،ولكنه سرعان ما اشتكى قائلا : لماذا لا تكتب يا اخي عن السياسة الاسرائيلية ؟ اليس ما يوجد في هذه الدولة ما يستوجب الكتابة عنه ؟
اجبته : نعم يوجد الكثير لأكتب عنه ، ولكنني لا اجد سببا سياسيا للكتابة وبمعنى آخر لا توجد سياسة في اسرائيل بالمعنى الذي تعرفه ويعرفه العالم من حولنا .استغرب كلامي وقال : لا سياسة في اسرائيل ؟ ماذا يوجد اذا ؟ قلت يا صديقي في هذه الدولة توجد الاهداف على راس القائمة ولهذه الاهداف سياسة لتحقيقها ، على عكس دول الشرق الاوسط التي وضعت السياسة هدفا بحد ذاتها اي العمل السياسي من اجل السياسة .
قال لي : بالله عليك اتطلع الى قراءة ما لم يقرأه الآخرون في السياسة الاسرائيلية ووعدته بذلك في اقرب فرصة .
عزيزي القارئ
كتبتُ في مقالة سابقة عن الديمقراطية التوافقية في لبنان وما تتمتع به هذه الديمقراطية الفريدة من نوعها، ولكننا نجد ان في اسرائيل أيضا ديمقراطية توافقية ولكن من نوع آخر ، تحاول السلطات جاهدة ان تجعلها مرادفة للديمقراطية الحقيقية المتبعة لدى معظم الدول الاوروبية ، وهي " ديمقراطية الاقليات " وهذا يعني ان كل اقلية تتمتع بديمقراطية تناسب تطلعاتها الاجتماعية والسياسية والدينية ، ويمكنني القول ان هذه الديمقراطية تشبه الى حد بعيد الاستقلال الذاتي داخل الكيان الطائفي المصغر ، دون الخروج الى ملامسة خصوصيات الطوائف الاخرى او الاقليات الموالية للخط الاستراتيجي للدولة ( دروز- وبدو- وشركس ) او غير الموالية ( مسلمين ومسيحيين ) .
مما لا شك فيه ان وجود اسرائيل في منطقة تتحكم فيها انظمة ديكتاتورية وقومية وعقائدية (وقريبا ربما دينية )، جعل هذه الدولة ( اسرائيل )تتمسك بالديمقراطية بقوة وحزم رغم كل الصعوبات التي تواجهها ، من حروب مع العرب ومن تناقض بالمواقف الاستراتيجية والقومية في الداخل ومسألة الولاء للدولة او الولاء للقومية . بالرغم من كل هذا اثبتت اسرائيل ان ديمقراطيتها انتجت قوة عسكرية قوية جدا ، وبيئة اجتماعية وتربوية وثقافية واقتصادية ارضت كل الفرقاء رغم ابتعادهم عن كل اندماج حقيقي في المجتمع الاسرائيلي بشكل عام .
ان تمسك اسرائيل بالديمقراطية جاء لثلاثة اهداف رئيسية :
الاول : كسب التأييد والتعاطف من المجتمع الدولي الديمقراطي وخاصة الاميركي والاوروبي على ان هذه الديمقراطية هي الوحيدة والفعالة في الشرق الاوسط .
ثانيا :جعل اسرائيل علامة فارقة في الشرق الاوسط المليء بالأنظمة الديكتاتورية والوراثية .
ثالثا : كسب ثقة اليهود من جميع اقطار العالم وحثهم على القدوم والسكن في اسرائيل على اساس انها دولة ديمقراطية تصون الحريات والخصوصيات .
ازاء هذه الاهداف الثلاث كانت  سياسة الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة ولا تزال تنكب على تثبيت هذه الاهداف والعمل على دمج الجميع في خط واحد وهو الولاء الكامل للديمقراطية لا للدولة ، بحيث ان الولاء للدولة يتناقض مع مواقف العرب فيها ، مع العلم بان الولاء للديمقراطية لا يقل اهمية عن الولاء للدولة . لذلك فقد ميزت السلطات ما بين الولاء المطلق للديمقراطية  والولاء الجزئي للدولة ، فنتجت عنها ديمقراطية الاقليات التي تعطي كل ذي حق حقه مع الاحتفاظ بالحق العام للدولة وهو الحق الاستراتيجي لها .
عزيزي القارئ
في هذا الجو المزدحم بالهدوء وحرية التعبير نجد الصراع المرير بين اربعة فئات قسمت الحياة السياسية الاسرائيلية :
اولا : فئة الانتماء والولاء ، وتتمثل باليهود والدروز
ثانيا :فئة الولاء ،لا الانتماء وهي تتمثل بالبدو والشركس وببعض الاقليات الاثنية كالأحمدية والاقباط والبهائيين .
ثالثا: فئة الانتماء لا الولاء، وهي تتمثل بالعرب ( مسيحيين ومسلمين )
رابعا : فئة لا ولاء ولا انتماء ، وهي مزيج من الطوائف كافة في الدولة يهودا وعربا وهي اقلية لا تعترف بالدولة لا كيانا ولا شرعية ، مستفيدة من حرية التعبير وحماية القانون  وديمقراطية الاقليات .
اذا هذه الفئات الاربعة تعيش وتمارس حقوقها تحت سقف القانون الذي تغطيه الديمقراطية وترعاه وتحفظه . لا شك ان الديمقراطية الاسرائيلية قد اثبتت مرة اخرى ان الملعب يتسع للجميع والكل مدعو الى ممارسة حقه وواجبه في لعبة تنصف وتراعي لاعبيها .
اخي القارئ
بنظرة سريعة حول السياسة الاسرائيلية والمواقف الرسمية نجد ان مواقف الحكومات المتعاقبة كلها جاءت كردة فعل على مواقف الدول الاخرى ، اي ان اسرائيل لم تضع خطا سياسيا واضحا بتعاطيها مع الازمة الرئيسية وهي ازمة البقاء والاستمرار وسط التهديد لها بالزوال تارة وبالتحجيم تارة اخرى ، بل كانت ولا تزال تتعاطى مع كل معطى وكل مستجد ضمن الخطوط الخاصة لهذا الناتج او الموقف . نعم لقد نجحت منذ مؤتمر مدريد بالفصل ما بين التضامن العربي بالانفراد مع كل طرف حسب الخصوصية والضرورة والنتيجة ،وقد نجحت بذلك وخرجت باتفاقية سلام مع مصر والاردن وبمواقف اخرى غير معلنة من الهدوء وعدم الاعتداء مع سائر الاقطار العربية وخاصة الخليجية منها .
رغم بعض العيوب في النهج الديمقراطي الاسرائيلي ، ورغم بعض الخروقات العامة للديمقراطية بالقوانين والقرارات البرلمانية ، حبذا لو تعلم العرب من هذه الظاهرة ولو قليلا بإدخال بعض فتات الديمقراطية الى مائدة الانظمة العربية ، حبذا وبعد هذا الربيع العربي ان نرى قادة عربا يمتصون رحيق الديمقراطية ولا يهم من اية زهرة او حديقة ، علّهم يخرجون عسلا ولو مرّا يفي بعض شروط الحياة الكريمة للجماهير المتعطشة للحرية والكرامة .
اخي القارئ
ان الدول التي تسهر على نفسها وتحافظ على كيانها هي الدول التي تمارس سياسة الاهداف الواضحة ، وبتكتيك دقيق للوصول الى الهدف الاستراتيجي المنشود .فاذا كان الهدف عسكريا ، ستمارس سياسة تقوية الجيش وكافة الاجهزة الامنية ، واذا كان الهدف اقتصاديا ستكون حتما سياسة اقتصادية وهكذا تخضع السياسة لشروط الهدف ، في حين ان معظم الدول العربية تضع السياسة هدفا لها واللعبة السياسية هي لعبة الاحتفاظ بالمناصب والامتيازات .
لا اقول ان لا عيبا في سياسة اسرائيل ولا اقول انها الديمقراطية الكاملة ولكنها تبقى رغم كل شيء افضل من انظمة مهترئة ومن سياسات كاذبة وهدامة لا ولاء فيها ولا انتماء الا للحاكم فقط .

هناك تعليقان (2):

  1. اخي الكاتب المحترم!تحية صباحية وبعدّ!قراْت مقالك الشيق ووجدت فية الواقعية والفهم الدقيق للتقسيمات الانتمائية لمواطني دولة اسرائيل على اختلاف طوائفهم واطيافهم,وكم صدقت عندما قلت بما معناه "يا ريت العرب تضع على مائداتهم بعض الفتات من الديمقراطية في اسرائيل ليغذوا بها عقولهم وتصرفاتهم"!وانني اقول لك ان ما يحدث من تغييرات ومن سلوكيات الانظمة العربية كالنظام السوري غير تفكير الكثير الكثير من نظرة ومفاهيم الشباب في الوسط العربي بكل ما يتعلق بعلاقة الشباب بالدولة والانتماء.فالاغلب يحمدون الله صباح مساء انهم ليسوا في دولة عربيةوانهم موجودون هنا يعيشون في ظل الديمقراطية وحرية الكلمة.

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا لك عزيزي القاريء وآمل ان يفهم الجميع قيمة ومعنى الديمقر اطية ، وقيمة وجود دولة اسرائيل الديمقراطية وسط هذا الجحيم المجهول الشرق اوسطي

      حذف