الثلاثاء، 27 مارس 2012

لعنة الزعامة


رجلان حكيمان تعبا من الحكمة وثِقَل الوعي ، وسئما من رؤية صفاء الحقيقة وعدالة الاقدار . قررا الخروج الى عالم اكثر مغامرة واقل مداراة ، عالم لا ينقصه كمال ولا يحدّه خيال ، عالم يئسَ منه الملل وأمِلَ ان لا يجده اليأس . خرجا الى طبيعةٍ لا طبع فيها ولا تطبُّع , الى مجتمعٍ لا جماعات فيه ولا افرادا ، وتجولا في ربوع جنة الخلد آملين بموت يخلدهما .
جلسا على رابية مطلة على بلدة كانا قد مرّا بها منذ فترة ، وقد تركت في نفسيهما اثرا عميقا من الألم والحسرة لما لقيا فيها من تباعد وتخاصم ونفور بين مختلف فئات سكانها ، ولِمَا ابدوه من لامبالاة ليس فقط حيال مستقبلهم ومستقبل اجيالهم بل اكثر من ذلك على ما ابدوه من سوء تقدير وتدبير لوجودهم بالذات .
قال احد الحكماء : ليلعن الله هذه البلدة ويصيبها بمرض عضال ليلقى اهلها حتفهم لأنهم غير جديرين بالحياة كما يجب ، فان المجتمعات التي لا تحترم الحياة ولا تحميها ولا تقدس حقوق الانسان كشرع الهي ، لا مجال لها بالحياة ولا تستحق عناء البقاء. ضحك رفيقه وقال : لا ،، لا تقل ذلك ربما يوجد بين اهلها من يستحق الحياة والبقاء وحسن الطالع فلا تخلط الحابل بالنابل ، ولكني انصحك بان تطلب من الله ان ينعم عليهم بأكثر من زعيم . التفت اليه صاحبه متعجبا : أترى ذلك ؟ وهل في ذلك ما يفي الغرض ؟ قال له اسمع يا رفيقي : ان اشد سوءاً تطلبه لأمة هو تعدد الزعامات فيها ، فلا امة عظيمة تستطيع السير قدما وفيها زعماء خاصة ان كانت غالبيتهم عجزة لا يستطيعون الحراك ويكثرون الكلام وفعلهم ما قل وأثمر . ضحكا معا وقالا: اللهم ابعد عن بلدتنا الزعماء واتقنا شر خلافهم بل اتقنا شر تعاونهم. آمين .
اخي القارئ
لقد لعنت الآلهة لبنان وكفرت به واهدته زعماءً وزعماء حتى امتلأت بهم الارض احياء وامواتا . ولكنها بئر لا تنضب ولا تجف ، انه استنساخ ، وصدق من قال " كل مين حد المير مير " ، فالزعيم عندنا زعيم ، وابنه زعيم ، واخوه زعيم ، وسائقه ومدبر منزله ، وحارسه الشخصي وحارس مزرعته وكل من يقربه ويمت اليه بصلة ، كلهم زعماء بزعماء ، ولا مجال لمقارعة من اخرج الأمثال من بطون السنين ومتاحف الأقدار .
ان الزعماء يأتون من عصارة التضحيات ومن آلام المحتاجين ، يأتون من مدرسة الوطن لأنماء الوطن ، يأتون من بقايا المجتمع لبعثه من جديد ، يحتضنهم الشعب ويتشعب حولهم لينمون ويزدهرون ، يأتون من باطن الامة ، تفرزهم وتُكبِّرهم وتدعمهم ليدعموا بدورهم تلك الامة او ذلك المجتمع الذي تبناهم واتخذهم قدوة . للأسف ، صديقي القارئ ، لقد اصبحنا في زعامة تلد زعيما وتُخرِج له من بطن الامة الكبيرة امة خاصة به تدعمه بدورها وتُكبّره ليكبر من جديد وليفرز لاحقا منه زعيما آخر وجسما آخرا من باطن الامة الام . وهكذا دواليك ، تمر السنين وتعدو ونجد انفسنا في حضرة زعماء كثر وامم اكثر تناسلت من امة واحدة وتنازعت وكبرت فيما بينها النزاعات والخصومات والتحالفات والتفاهمات  وكلها على حساب الحضن الاساس الذي انجب الجميع وهو الوطن .
ايها اللبنانيون ، ايتها الامة المشرذمة المهشمة المفعمة بالفساد والانحطاط السياسي والوطني . ايتها الامة التي عقرت ( اي امة عاقر ) بعد فخر الدين وبشير وجبران ونعيمة ، بعد ، وبعد ،،اسماء لا تحصى بقلم ولا بورقة بل بتاريخ كامل وطويل اللهم اذا لم يأتِ احدهم ، زعيما من هنا وزعيما من هناك ليكتب تاريخا على هواه وحسب نهجه السياسي واصله المذهبي .
ايها اللبنانيون، ايها المجتمع المفكك المتناحر السائر نحو الهاوية ونحو النهاية بل انتم سائرون الى اللانهاية ، فلا نهاية لمن لا وجود له وانتم الآن سرابا من حقيقة وخبرا من كان .
لقد آلمتني كثيرا قصة كتاب التاريخ ، وآلمني اكثر تصرف السياسيين الزعماء وكأنهم من صَنع هذا التاريخ وبكل وقاحة يناظرون ويفقهون ويأمرون بإضافة هذا وحذف ذاك ، وغالبيتهم لا يفقه بالقراءة شيئا وان قرأ لا يفهم ولا يُفهِم وان فهِمَ يفهم حسْبَ ما يُرادُ له ان يفهم ، وكأنّ التاريخ عندهم فن من فنون الطبخ ونسوا ان التاريخ يُصنع ولا يُطبخ ، يُدرّس ويُحفظ ولا يعلّب ويجفّف .لكن ما آلمني اكثر من كل ذلك هو الشباب اللبناني الذي حمل راية التصدي للّعبِ بالتاريخ وهو بنفسه يركب اغلاطَ من يريد اللعب بالتاريخ .
ايها الطلاب ، اتوجه اليكم لأنكم انتم من سيدرس وسيدرّس هذا التاريخ ، اتوجه اليكم حزينا كئيبا بعد ما سمعت منكم عبر الشاشات والصحف وتأكدت بان آفة الزعامة ما زالت حية فيكم وترزق ولمست انجراركم نحو العصبية وعدم المرونة .
نحن لا ننكر على احد ما انجزَ ، ولسنا بصدد نكران الحقيقة ونحن لا نخاف الحقيقة ابدا بل نخاف عليها من الضياع . لا ننكر مقاومتكم في تل الزعتر ولا الكرنتينا ولا ننسى ابدا مقاومتكم في زحلة وشرق صيدا . لا ننكر عليكم ايضا انتم شركاؤنا في الوطن مقاومتكم للتدخل السوري في صوفر وبحمدون ولا ننسى تفانيكم بالدفاع عن جبلكم . لا ننكر عليكم انتم ايضا اخوتنا في الوطن تضحياتكم ومقاومتكم ضد الوصاية ودفع ثورة الارز الى الامام حتى خروج المحتل السوري. لا ننكر ابدا مقاومتكم انتم ايضا رفاقنا واخوتنا وشركائنا في الوطن ضد الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب حتى خروجه نهائيا . لا احد ينكر مقاومة اللبنانيين على مختلف ميولهم  وفي مختلف المناطق اللبنانية . لا احد ينكر ولا احد يتنكر فإننا نحترم الخيارات والمسارات سواء كانت سلبية ام ايجابية فكل جهة آمنت بشيء وسارت فيه وهذا هو لبنان التعددية والحرية واحترام الخصوصية. ان الذي اجبرني على التوقف هو ما ادمى ضميري وضمير الجنوبين كافة ، هو نكران الحقيقة تجاه مواطنين شركاء لكم ايضا في الوطن . كم حزنت حين سمعت شبابا كنا بالأمس القريب نعتبرهم من اركان البيت . شباب ، طلاب يطالبون بتاريخ خاص بهم شأنهم شأن الآخرين الذين يعتبرون انفسهم اعداء لنا واننا لسنا بشركاء معهم . جميعكم تطالبون بتاريخكم دون التطرق الى الجنوب بكلمة واحدة . اقول لكم ايها الاعزاء : اذا كنتم تريدون تاريخا حقيقيا فعليكم البدء من عندنا لأن التاريخ المعاصر بدأ من الجنوب .
نحن اول مقاومة عرفها لبنان ضد الوجود الفلسطيني المسلح .نحن اول من ابتكر ونفذ " انصار الجيش " لحماية الدولة ومؤسساتها . نحن من بدأ في محاربة من تدركون جيدا انكم في طريق محاربته عاجلا ام آجلا . نحن اول من تصدى لكل من كان يريد المس بالدولة . نحن من ينشر غسيلكم ليجف ويلبسه ثانية بدلا عنكم وانتم تتلهون في فبركة تاريخ بعيدون كل البعد عنه ومشاركتكم فيه شبه معدومة . ان من يريد كتابة تاريخ اصيل عليه ان يعرفه قبل ان يكتبه . عتبي على جيل ظنّ انه قادر على أحداث تغيير واذ به بحاجة الى تصليح وتصحيح ومعرفة تاريخه القريب والبعيد . اقول لكم بصراحة ، اذا كنا نحن الجنوبيين وخاصة الجيش الجنوبي اصدقاءً لكم ، فلماذا تنكرون علينا وعلى الاجيال الصاعدة تاريخا حافلا بالأحداث التي غيرت مجرى التاريخ اللبناني ، واذا كنا اعداءً لكم فعليكم دراسة تاريخنا " تاريخ عدوكم " لمعرفة كل خباياه وكل ثغراته لكسب المعركة ضده ، فبكلا الحالتين وجب عليكم دراسة تاريخنا الذي هو بكل فخر تاريخ من تاريخ لبنان العظيم .
اسمحوا لي ان اعود قليلا بالذاكرة لأذكّر من نسي ، انني مواطن جنوبي حاربت منذ اتفاق القاهرة الى جانب الدولة والجيش ضد المد الفلسطيني المسلح الذي احتل ارضي وصادر قراري ، فاين كنتم ؟
بعد فرط عقد الدولة تحالفت مع الاقرب اليّ جغرافيّا اسوة بمن في الشمال والشرق ، تحالفت مع اسرائيل لمصلحة مشتركة وهي الحفاظ على الارض والعرض لحين عودة الدولة ، وانخرطت بالجيش الجنوبي وحاربت كل من كان يعتبرني عدوا له ، حاربت حزب الله من باب الرفض لاستراتيجيته وخططه ضمن افق ولاية الفقيه التي احترمها في ديارها والدولة الاسلامية التي لا تناسب تطلعاتي في الديمقراطية والحرية والمساواة ، وليس من باب عدم قبوله كشريك في الوطن ، فاين كنتم ؟
والسؤال:
هل هذا تاريخ ام لا ؟ وهل اربع وعشرون سنة من الحرب في الجنوب لا تمثل تاريخا ؟ هل تريدون حذف هذا التاريخ من التداول بسبب تحالفنا مع اسرائيل ومحو سيرة شعب وجيش اتحدا معا طيلة هذه الفترة ؟ وهل نكران هذا التاريخ بسبب احتلال إسرائيل للجنوب ؟ لماذا ندرس تاريخنا مع فرنسا ؟ الم تكن محتلة لأرضنا ؟ ماذا تطلقون على علاقاتكم وتحالفاتكم وتفاهماتكم وولاءكم لسوريا او ايران او السعودية ام مصر ، هل هي تاريخ ام تعامل ؟  وهل علاقتنا مع اسرائيل هي من باب علم الاجتماع ؟ ام الجغرافيا والعلوم عند العرب ؟ انه تاريخ يا ابناء وطني ، تاريخ مجيد ومشرف بُنيَ على اسس وطنية لحماية الشعب والجيش والدولة ، في الوقت الذي كان فيه حكم الوصاية وما بعده بالعاً الدولة والجيش والشعب .
 توحدوا على رؤية واحدة ولا تدعوا لعنة الزعماء والزعامة تلاحقكم لا في مدارسكم و معاهدكم ولا في تاريخكم. ان هذا التاريخ هو ملك لكل واحد منكم فأحفظوه جيدا ولا تنكروه .
اعزائي ابناء وطني
اينما ذهبتم واينما كنتم فانتم لبنانيون ،ولا شيء في الدنيا يمكنه ان يغير ذلك .انت لبناني في كندا وفي البرازيل حتى ولو ازيلت بعض المقاطع من تاريخك . انت لبناني في افريقيا واوروبا حتى ولو اضيفت بعض المقاطع على تاريخك ، ولكنك لن تكون لبنانيا ابدا بدون تاريخ ، تاريخ حقيقي تتسلح به لتعلن عن هويتك بالفخر والاعتزاز ، ولن تكون لبنانيا صالحا على قدر المسؤولية في المجتمع الذي تعيش فيه حين تنكر تاريخك الاصلي او تحرِّفه .اقول لكم وانتم في شتى انحاء العالم اشهروا تاريخكم ولا تتنكروا له ، افتخروا بما عملتم وعمل آباؤكم من قبلكم ، وانتم ايها اللبنانيون في اسرائيل : لا تدعوا لعنة السياسة اللبنانية تتبعكم فيكفي ما تحملتموه من ظلم وجور بحقكم وحق اولادكم . لا تدعوا السياسة اللبنانية تفرقكم عن بعضكم ، لا تسمحوا لأنفسكم او لأولادكم بالانجرار وراء سراب الزعماء اللبنانيين ، اشرحوا لهم وافهموهم من انتم واخبروهم الحقيقة بانكم كبش المحرقة للجميع ، فلا هذا افضل من ذاك لنا ،فنحن واحد بالنسبة لهم : همٌّ وزال ، حمل وازيح عنهم وكل ما يقولوه هو ملح الرجال . استغلّوا كل فرصة ممكنة لتعليمهم وارشادهم واشباعهم ديمقراطية حقيقية غير مزورة وموجهة . ان الذي بين أيديكم في اسرائيل غير متوفر لغيركم في اي مكان في العالم ، حتى ان الذين في لبنان يحسدونكم على ما انتم عليه وفيه . ارحموا انفسكم واهتموا بعائلاتكم فهذه رسالة من ضحوا تجاهكم وهذه رسالتي لكم : لن نكون ابدا نسخة عن سياسيينا ولن نسير في ركب من خاننا وانكر علينا حقنا ، سنكون دائما كما كنا ابناء الجنوب الحبيب المعطاء ، ابناء الجنوب المخلصين ، ابناء الجيش الجنوبي ، ابناء آلاف الشهداء والجرحى سنكون كما عرفنا العالم " اللبنانيون الحقيقيون " .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق