الجمعة، 24 فبراير 2012

المتلاعبون بالعقول

منذ القدم ونظرية المؤامرة تأخذ حيزا كبيرا من اهتمام عامة الناس في المتابعة والتحليل والحديث عنها بكل ما تملكه من حدس وتبصر وفهم لهذه النظرية. قرون مرت ولم تزل ، ذات الكلمات وذات العبارات في نعت شيء ما لتشتيت الانتباه عن موضوع كان يُراد له ان يُستّر وان يُخبأ . لقد كانت وما زالت نظرية المؤامرة من انجع الطرق واسهلها في اقناع الناس بخط او بنظرية او بموقف ، ولعل الامعان في شرح النظرية وتفصيلها وتبسيطها هو الضرب الصحيح في المكان الصحيح لجعل الباطل حقا ، والكذب حقيقة والخطأ صحيحا .
كانت المؤامرات في العهد القديم تدور رحاها في قصور الملوك والقياصرة ، وكانت تدور غالبيتها حول خلافة هذا الملك او هذا القيصر وابعاد هذا وتقريب ذاك ، ولعل المحور الرئيسي لتلك المؤامرات كانت الخيانة " خاصة خيانة النساء " وهي السبيل الوحيد والاسرع لتغذية الفتنة قبل الخيانة الوطنية ، او خيانة الملك بإفشاء بعض الاسرار او المعلومات . اذا كانت نظرية المؤامرة تعتمد بالدرجة الاولى على " الخيانة" وما على صانع المؤامرة ومُنتِجها الا انتقاء الخيانة الملائمة لها والسير فيها . اضف الى ذلك ان التنفيذ يتطلب عنصرا على درجة محدودة من الذكاء وذلك ليسهل اقناعه اولا ومن ثم يأتي دوره لمساندتها والترويج لها ولتبنيها بمقولة " قيل وقالوا " . ان هذا العنصر يجب ان يكون ايضا من عامة البلاط الملكي اي من درجات الدنيا في السلم التراتبي للحاكم " الملك او القيصر او الزعيم او الرئيس " ، وهذا العامة "البلاطي " يمكنه ان يكون من العامة الشعبية اي انه يستطيع ان ينحدر وينزل الى مستوى الشعب العادي البسيط ليبذر وينشر تعاليم البلاط العلوي ويتابع العمل ليتأكد من نجاح الفكرة وليتأكد من زرعها في تربة صالحة ضمن ادمغة متحجرة فاقت القرون الوسطى حماقة وسذاجة . اننا نرى هذا المشهد كثيرا عندنا في لبنان وفي الشرق عامة ، خاصة لدى الأنظمة الديكتاتورية والاحزاب العقائدية حين يسخّرون حناجر عديدة لنشر ما يريدون وسط العامة من خلال المساواة المؤقتة بين الحاكم والمحكوم .
ان نجاح بث المؤامرة يتطلب العنصر الثالث بعد  التهمة ( الخيانة ) ، والمنفذ اي (رسول الحاكم او البلاط العلوي ) ، انه المصدر ، اي مصدر المؤامرة ،( الجهة المصدرة للمؤامرة ) ويجب ان تكون عالية وعلى مستوى البلاط الملكي فلا يجوز التكلم عن مؤامرة آتية من طبقة سفلى ، فهذه الطبقات لا يمكنها ان تحيك مؤامرات ولا احد يصدق انتاجها ،" تصور عزيزي القارئ ان يأتي احد نواب البلاط العلوي في لبنان او سوريا او العراق ويقول ان الصومال او مدغشقر او النيجر تهدد امننا وتتآمر على بلادنا ، ربما " سيلاحقونه بالبيض او البندورة " ولن يجد آذان صاغية ولكن ان ادعى ان المؤامرة آتية من فرنسا او بريطانيا او اميركا فهذا حديث آخر بالطبع وستأخذه الجماهير على محمل الجد .لذلك نرى ان المنتج للمؤامرة او المصدر هو عنصر اساسي ويجب ان يكون قويا وقاسيا وله القدرة على زرع الخوف والريبة وان يكون متوحشا لا يعرف الرحمة وهذا ضروري حتما للملمة صفوف العامة ورصّها وتجهيزها للوقوف في وجه عدو شرس وغاشم . ( لقد رأينا هذه الحالة في النظام الشيوعي حين كانت المؤامرة تتجه لتأليب الشعب على البلاط اي الحكام ، وكانت (الرأسمالية ) وكل من يقترب منها او يغازلها يعد خائنا ، في حين ان الغرب كان يعتبر ان مصالحه القومية هي هدف الانظمة الراديكالية وليس النظام لان الديمقراطية هي النظام نفسه " تداور الحكم " وان كل من يقترب من الشيوعية يعتبر فاقدا لشرعية المواطنة الصالحة ). ان بقاء هذه العناصر الثلاثة هو شرط لاستمرارية المؤامرات الواحدة تلى الاخرى  ، آلاف السنين وآلاف المؤامرات تنتهي الاولى لتظهر الثانية وهكذا حتى يومنا هذا فلا البلاط المُسيطِر تغير ولا تحضرت العامة ولا نضب نبع المؤامرات او تراجع ، وستبقى هذه النظرية قائمة الا في حالة واحدة وهي نضوج العامة وتقديرها لحاضرها وقدرتها على اخذ العبر من الماضي وعلى امكانية رؤية وفهم الخطوات الواجب اتخاذها من اجل غد افضل ، عندها تنتهي نظرية المؤامرة لأنها لم تعد قادرة على المرور او التسلل عبر ادمغة نُظفت من رواسب البلاط العلوي ومن ينابيع المؤامرات المزيفة .
لا اريد العودة الى الوراء كثيرا، فنحن نعرف الاوضاع التي سادت الوطن خلال السنوات الماضية ولكنني اريد الانطلاق من سبعينيات القرن الماضي عندما بدأت الحرب في لبنان على اساس نظريات المؤامرات المتعاقبة والمتتالية والتي حيكت على نفس طريقة مؤامرات البلاط الملكي والقيصري للقرون الوسطى ، ويؤسفني القول ونحن في عصر الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، يؤسفني القول اننا ما زلنا نستسلم لجاذبية المؤامرة وننقاد اليها بقوة ساحر ، وكم نعجب عندما نرى اناسا على قدر عالي من الثقافة والرقي يجلسون وينصتون بكل ما شُحنوا من هيبة التبعية والانجرار لمن يُركّبَ في عقولهم مؤامرة هو ليس بمقتنع بها . انهم القوم الذي يمثل الوقود لهذه المؤامرة ولاستمرارية ذاك الوقاد ، الهادي والمسيّر ، وضامن الآخرة المنشودة لهم ، مع العلم بان غالبيتهم على دراية ببطلان ادعاءاته وبأكاذيبه ، ولله العجب يقبلون ، ويسيرون ويؤيدون ويباركون . شعب أعمته الطائفية واثارته المذهبية ، وطعنَ بكل آداب المخاطبة والحوار وأخذ المؤامرة عنوانا ومضمونا ونتيجة .
ان تثبيت نظرية المؤامرة يتطلب جهدا كبيرا ونهجا مبرمجا ودقة متناهية لأكثر من حنجرة واكثر من ديوان ، وهذا يأخذنا الى اهمية اختيار المتكلم " الخطيب " الذي يلامس الجماهير بأنامل اللغة الحريرية اللطيفة ويوقظ فيهم حس الثورة للتصدي والصمود في وجه المتآمرين ، وهنا يلعب عنصر التشويق ( الانشائي والنفسي ) دورا بدفع المستمع الى المتابعة الدقيقة وحرصه المتناهي على سماع كل كلمة من امثولة التصدي وبالتالي تكمن بديهة وخاطر وحكمة الخطيب  في جعل المستمع متعطشا لسماع المزيد ولانتظار المزيد في مكان آخر وفي مرحلة اخرى وفي درس آخر . ولا بد ايضا من ذكر المشاركة الفعلية التي يُجرّ اليها المستمع ليؤَكدَ له انه صاحب البيت وانه المحرك الحقيقي في كشف المؤامرة اولا وفي التصدي لها ثانيا ، وهذه هي اهمية اللعب على وتر المساواة بين البلاط العلوي والطبقة السفلى ،( انها مساواة وهمية تنتهي بانتهاء الهدف منها ويعود كل الى موقعه) ،في المشاركة باكتشاف المرض " المؤامرة "، والمشاركة بإيجاد العلاج " الصمود والتصدي " ، والمشاركة في نشر تعاليم الصمود واسسه ومنافعه " الاستمرارية والمتابعة" وبذلك نرى ان الذين يحكمون بنظرية المؤامرة هم انفسهم من استوردها ومن سوقها ومن دعا  للتصدي لها .
منذ الثورة العربية الكبرى والمؤامرات تحاك لسلب العرب ما ليس بحوزتهم ، وهم يتصدون ليحموا ما ليس عندهم .  تصدوا لمؤامرة اقامة الدولة العبرية وهم من ساعد اليهود على اقامة هذه الدولة ، فكانت المؤامرة ان يبقوا في ارضهم وقراهم لإبادتهم فافشلوا هذه الفكرة عبر النزوح الى البلدان المجاورة للبدء بالتصدي ولا تزال هذه المؤامرة سارية المفعول حتى اليوم .  من جهة ثانية كانت الانظمة العربية كلها تتصدى للمؤامرة الغربية والتي هدفت الى سرقة اموال الجماهير العربية ، فتصدت لها انظمة البلاط العلوي وهربت الاموال بسرعة الى تلك البلدان وبذلك ضربت ضربتها القاضية واثبتت للجماهير بانها لم ولن تفرط بدولار واحد من اجل طمأنة الشعب ليستمر بموجبات الدفع والعطاء . هكذا تهلل العامة لهذا الصمود ويبقى النظام قابعا فوق الرؤوس ويدوس على الاجساد والنفوس من اجل حماية الجماهير وحماية الاوطان .
الغريب في الامر ان لغة المؤامرة لا تُسمع الا عند الانظمة العسكرية الديكتاتورية والاحزاب العقائدية وهذا ما انعم الله علينا به في لبنان وفي شرقنا العزيز . ان جميع الأحزاب عندنا وخاصة اليسارية منها لا زالت تطبل لنظرية المؤامرة ، تعددت اهداف هذه المؤامرات وبقيت نفسها تلبس ثوبا وتقلع آخر لتلبي متطلبات الساحة والساعة " بدءا من مؤامرة التقسيم ، الى التوطين ، الى تهجير المسيحيين الى اسلمة لبنان ، الى قضم لبنان من سوريا ومن ثم الى احتلال لبنان من قبل اسرائيل الى ما لا نهاية من مؤامرات ومكائد ". كانت توزع الادوار فتارة يدعي اليسار بالمؤامرة وتارة اخرى يقوم اليمين بالدور ذاته ، والجماهير لا تدري من اين اتت هذه المؤامرات فيتصدون لها بكل قوة ، وهنا تكمن خطورتها بانها مجهولة المصدر ومجهولة الهوية والشكل والمضمون ولكنها معلومة النتيجة وواضحة الاهداف بضرب كل من يغرِّد خارج السرب الحاكم . هذا هو حالنا اليوم مع احزابنا الوطنية المحترمة والتي لا تزال ترهبنا بحجج المؤامرة وتسعدنا بقدرتها على التصدي لها .
القاريء العزيز
الغرابة في الانظمة الحاكمة بانها تعترف فجأة بالمؤامرة الآتية اليها بعد سنوات من الحكم المستبد والظالم ، فاذا طالب الشعب بالحرية فهذه مؤامرة ، واذا طالب بقليل من الديمقراطية فهذه مؤامرة ، واذا طالب بأبسط حقوقه فهذه ايضا مؤامرة ، ولان التصدي للمؤامرات هو من صلب مهمات الانظمة نراها تضرب شعبها بيد من حديد دون هوادة ودون رحمة ومن دون رادع وكل هذا من اجل حماية الوطن من المتآمرين والمهم ان يسلم النظام القائم . وبعد كل هذا نجد ان قسما من العامة يؤمن من جديد بنظرية الوطن الجديد المنبعث من غبار معارك الشرف والكرامة والتصدي وعلى صورة نفس الحاكم السابق ." رحم الله القائل: فالج لا تعالج "
لا اريد ان اقارن بين هذا وذاك ، ولا التفضيل بين سيء واسوأ ، ولا بين جيد وافضل ولكني اريد ان اقلب الادوار في طرح معادلة بسيطة تحدث من وقت لآخر. اذا سلكت ايران طريقا مغايرا كما كانت عليه قبل الثورة الاسلامية عام 1979 ضمن صفقات معينة بين بيع وشراء، من نفط الى برامج نووية الى اذرع قتالية او الى امتيازات اقليمية (افغانستان او العراق وربما البحرين ) وانتهجت ايران نهجا غير عدائي مع اسرائيل " ولن اقول تحالف " ، فماذا سيحصل بنظرية المؤامرة عندنا في لبنان وسورية ؟ وكيف سيطل علينا خطيب التصدي والصمود؟ هل سيمدح ليبرمان ويهاجم احمد الطيبي ؟ وهل سيغازل اوباما ويلعن شافيز؟ ام انه سيحاول العثور على منبع جديد للمؤامرة غير الغرب واسرائيل ، وربما سيتحول الى الصين مثلا على ان تعدادها السكاني يسمح بالقول بانها مصدر المؤامرة وليفتش من يريد بين اكوام البشر ليعثر على الراس المدبر ؟. من ناحية اخرى ونحن على ابواب فصل جديد من الحكم السوري ، اني اتساءل ماذا سيكون مصير العلاقة المميزة بين النظامين ؟ وهل ستبقى كما كانت ام ستتغير وتعدل لتصبح بين دولتين ؟ وهل سيغير لبنان نهجه تجاه السلم العام في الشرق اذا ما غيرت سوريا الجديدة اتجاهها ؟ وهل سيرضى الحاكم اللبناني بالتوجه السوري الجديد ام انه سيقاومه ويرفضه ؟ واذا ما سلمنا جدلا باتفاق سوري- اسرائيلي ، فهل سيتبعه اتفاق لبناني – اسرائيلي ام انها ستكون مؤامرة جديدة على لبنان وسوريا معا وسيهب حماة الثورة عندنا لإنقاذ ما تبقى من صمود وتصدي من اجل " القضية " ؟ والسؤال الاهم في هذه المرحلة : ما هو مصير حلفاء النظام في لبنان بعد وصول الرئيس السوري الى مقره الجديد في سيبيريا – ستالين ؟ هل سينقلون المشهد السوري الى لبنان وبالتالي سيُرَحبْ بهم في سيبيريا ايضا ؟ ام سيقتنعون بأن الوطن يتسع للجميع وان الدولة هي الخيار الاصح؟
عزيزي القاريء
حاولت ان اضع بين يديك نسخة من اسلوب السياسة اللبنانية الفذة  وعينة من السياسيين الحكماء الذين يقودون هذا الشعب باسم المؤامرة ، هذه المؤامرة التي تحولت في الآونة الاخيرة الى مشروع ( منه الامريكي والسعودي والايراني والتركي ناهيك عن المشروع القديم الجديد الصهيوني ) وكل ما عليك فعله اخي القارئ هو اختيار مؤامرة او مشروع يناسبك وسياسي تركن اليه ومتراس جيد لتبدأ منه بالتصدي والصمود والقتال لان قاموس التحالفات والتغيرات غني بالمفردات المتنقلة هنا وهناك ، والله مع الصابرين .


هناك تعليقان (2):

  1. اخي الكاتب !كلما اْقرا لك مقالا" كلما تشوقت للمقال القادم .يا ريت والف يا ريت تقراْ وتفهم الجماهير العربيه في لبنان وسوريا ما تكتب عسى ان تعي الحقيقة.والحقيقة واحدة ان الشعوب الشرق اوسطية وخاصة في الدول العربية مروا بغسيل ادمغة على مر العقود حيث اشبعوا وارتووا من التعابير المثيرة والديماغوغية التي تنادي للصمود والتصدي وعدم الاعتراف بهذا او ذاك, وتنادي بالموت لامريكا ولاسرائيلفي الحال الذي يقوم هذا الشعب بقتل بعضة بعضا" حيث لا يحتاج الى عدو ليذبحه. الشعب يذبح ويزج بالمقابر والسجون على يد حكامهوبحجة المآمرة والعناصر التخريبية الغريبة.العرب لم ينتصروا على ذبابة على مر العصور .نعم انتصروا على بعضهم .وان كان هناك انتصار ما لم يكن القدة من العرب وانما مسلمون اجانب,كصلاح الدين او الظاهر بيبرز او محمد علي باشا الالاباني وابنه ابراهيم باشا او الاتراك كالسلطان سليم وغيرهم.حتما" لا اذكر اي قائد عربي بعد الخلافات ان انتصر ولو على باعوضة.

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا لك اخي القاريء على متابعتك لمشوراتي وكلي فخر بانها قد نالت اعجاب من هم على قدر المسؤولية في فهم ما للكلمة من معنى ، وشكرا لك مرة اخرى على دعمك وتشجيعك لي واني على يقين بان الوطن العربي سيشهد انطلاقة جيدة نحوالحرية والديمقراطية وفهم الحاجة الى السلام

      حذف