الأحد، 11 ديسمبر 2011

الخيار الأخير

                             

" لبنان اصغر من ان يقسم واكبر من ان يبتلع " جملة تغنى بها السياسيون في لبنان انها الكرة السحرية التي يقذفها كل من يجد نفسه محرجا بأزمة ما او متلبسا بموقف غير راغب فيه وما اكثر رجالات السياسة عندنا المتلبسين والمحرجين ، المتنمرين والمتهكمين .متلبسون بأزمات من صنع اياديهم ومحرجون بحلول تناقضت مع رؤيتهم ومبتغاهم ، متنمرون بمخالب غيرهم ، ومتهكمون على شركائهم في الوطن تارة بالتبعية وتارة بالولاء المشكوك بأمره وأخيرا بالخيانة كل ما ضاق القاموس بالمفردات الملائمة للنعت والسخرية والتجريح ، وبالتالي سوق الناس بشعارات ولدت من رحم الحالة الراهنة . لنعود بالذاكرة الى تلك المقولات الشهيرة التي طبعت حياة اللبنانيين بالقوة في فترة الحكم بالقوة والامن بالخوة ، اعود الى " قوة لبنان في ضعفه " و" المسار والمصير " و"البقرة الحلوب " و " الشعب والجيش والمقاومة " و " شعب واحد في دولتين " و " دولة لشعبين شقيقين " الى ما لا نهاية من كلمات رنانة كلها شعارات اقتربت كثيرا لتكون خيارات منها ما هو فرض الوجود ومنها ما هو واجب الوجود ( عذرا من الغزالي ) ، ومنها ما هو منزل من خلف الحدود ، حتى كفر الوجود من تلك الردود .
اخي القاريء
لنلقي نظرة قريبة وعن كثب على هذا الكيان المسمى بلبنان ( ارجو المعذرة على هذه الكلمة التي لا تليق بالأحرار) ، واسمح لي عزيزي القارئ بذلك لأني لا استطيع ان اصفه بصفة سياسية محددة فلا هو جمهوري ولا رئاسي بل محاصصة وتوافق مرحلي ، ولا هو ملكي لان الملكية انتهت بانتهاء الملك أحيرام ، ولا امارة لان الامارة دفنت مع الامير فخر الدين ، ولكننا نحن اللبنانيون سباقون دائما الى الابداع والابتكار فقد اوجدنا صفة ملائمة واسما يختصر الجميع ويجمع الجميع ويعطي سببا لكل من نوى وآه لكل من هوى ، وعذرا لكل من هوى . انها "المزارع اللبنانية المتحدة " وعاصمتها مزارع شبعا المحتلة .  ان مفهوم الدولة بسيط جدا : شعب قرر العيش على بقعة ارض معينة ضمن شروط تسمى قانونا ، وهكذا يقوم كل فرد او جماعة بتنفيذ ما هو مطلوب منها تحت سقف هذا القانون فيصبح لدينا دولة لها شروطها ومقوماتها وبنيتها ، واذا اخل احد بهذه الشروط يصبح تلقائيا خارجا على القانون وبالتالي خارج الدولة . فمن من الفرقاء اللبنانيين لم يخل بهذه الشروط ؟
منذ كان لبنان قويا بضعفه كان العرب ايضا اقوياء بضعفه حتى اصبحوا اقوياء اكثر على ضعفه .لقد جعلوه ساحة الصراع المفتوحة لتنفيس الاحتقان عندهم ، منهم من رأى فيه مكب نفايات للازمات الداخلية عنده ، ومنهم من وجده مسرحا لشد العضلات ، ومنهم من اتخذه بديلا لكيان او خطة او حل . هكذا ابتلعه العرب على مائدة الجامعة اللبنانية بملاعق فلسطينية وانياب سورية .اصاب السوريين عسر هضم عسير ووصلوا الى حد بصق هذا الكيان في وجه اسرائيل عام 1982 لولا تدخل الطبيب الغربي الحكيم السيد فيليب حبيب وحسّن شعور السوريين قليلا واراحهم من تلك الوعكة الصحية. بقي مع ذلك هذا الكيان اللبناني مترنحا بين فكين ومعدتين الى ان تركه الاسرائيلي على اساس انه حصرم من حلب وان الحلبيين اولى يهذا الحصرم .
انطلقت شرارة "المسار والمصير "لتنور دروب التحرر والممانعة والصمود والتصدي وابتلعت سوريا هذا الكيان معيدة ملكية انتزعها منها الفرنسي الغاشم الجنرال "غورو " وكأن معدة الجار السوري قد شفيت فجأة وان عسر الهضم قد مر وزال وان مسار البلدين واحد لان مصيرهم واحد ، فمصير سوريا ان تبتلع لبنان ولا حول ولا قوة الا بهذا البلع ومصير لبنان القبول بهذا البلع حفاظا على الكيان من شراهة الفك الاسرائيلي الذي يحاول دائما اغتنام الفرص المرة تلوى الاخرى .وهكذا بقي "المسار والمصير " يتغذى على "البقرة الحلوب" اللبنانية الكاملة الدسم، لا تبخل على جار ابدا مهما جار ،تعطي دون منة ودون حساب وبقي هذا الشعار يبني قصور القصور(كلمة القصور هنا تعني الضعف)والقوة الواهية والجبهة السراب والتهديد والوعيد لا للعدو المتربص ، بل لكل من لا يقبل بهذا الشعار الذي اصبح خيارا بالفرض والاستبداد تارة بالشعبين الجارين المتحدين بدولة واحدة تعيد امجاد الخلافة الاموية ، وتارة بدولتين لشعب واحد شده الحنين لعهد الخلفاء الراشدين لشدة ارشاد الشيوخ والعلماء على الوهية القيادة وقدسية الحاكم صاحب مفتاح جنة الخلد والنعيم ، فانبعث البعث القريب على انقاض البعث البعيد من مخلفات انبعاث دخان نفس الحليف والعدو. تطورت اللعبة وتجددت وادخلت عليها شعارات وخيارات ولكن القديم بقي على قدمه يبني على اسس لم يعد بإمكانها الصمود امام اثقال التطلعات وآمال التجديد وانهار سور الصين العظيم وسقطت روما وعاد الاسد الى عرينه منهكا وتعبا لاعنا تلك الغابة الوعرة متوعدا السلحفاة البطيئة الزاحفة بثبات نحو الحرية والكرامة . هكذا بصقت سوريا الكيان هذه المرة واعادته لأبنائه علهم يغسلونه من لعاب لطالما يشد اليه الفك من جديد .
خرجت المزارع اللبنانية المتحدة من الفم الاسرائيلي مفعمة بنصر مزيف وبنشوة القاهر المستبد وبتوكيل الهي طويل الامد ، ولتخرج من معدة السوري عنوة عارية هزيلة وتدخل في غيبوبة تشبه غيبوبة المريض امام باب غرفة العمليات . انه مرض مستعصي ، فتاك ، استمد قواه المعدية من حاضنة له ومسببة لوجوده في الحدود الجنوبية ، فاستنفرت العقول وابدعت في التحليل والدراسة وسبر الاغوار، واُحضر اطباء فارسيون متخصصون بهذه الانواع من الفيروسات والطفيليات وعولجت احشاء هذا الوطن اليتيم وبرأت والحمد لله بوصفة الدواء الشافي الفعال: "الشعب والجيش والمقاومة " ، وصفة فُرض تناولها على الافراد يوميا حتى طاب كل سقيم وعليل وشفيت المقاومة من الجيش وزالت عنها حمى الشعب واستقامت الامور في بلد المزارع وذاب الثلج وانقشعت الغيوم واستغنى المثلث عن قائمتيه ليصبح الشعار : المقاومة والمقاومة والمقاومة .ابتلعت هذه المقاومة المزرعة تلوى الاخرى من مزارع الجيش الى مزارع الشعب ، ومزارع شبعا صامدة حجة وعذرا وسببا لهضم الكيان ولبعثه ولاية الآية وكبش الفقيه .
عزيزي القارئ
من منا يريد تقسيم لبنان ؟ لا احد لأنه مقسم ومن يُقسم المقسم عقله مُقسم. ندري او لا ندري نرضى او لا ، انها الحقيقة ولنتعايش معها بالتي هي احسن ، لبنان او ما بقي من هذه المزارع مقسم جغرافيا وتاريخيا وتربويا ، ثقافيا ، اجتماعيا ماليا وامنيا ، كل شيء فيه مقسما ولا ينقصه الا ترميم الخارطة الهيكلية قليلا ليأخذ مجرى التثبيت وترسيم الحدود الداخلية لعدم الحاجة للحدود الخارجية لأنها منتهكة كل يوم وكل ساعة . كل طائفة تحتفظ لنفسها بأماكن محرمة على الغير من بؤر امنية الى بؤر دينية ناهيك عن امارة الفلسطينيين في المخيمات والبقاع والناعمة . هذا بالإضافة الى استحضار الماضي القريب والبعيد والضرب على وتر الجماعات ،اصلها واصولها جذورها وامتدادها وتحالفها وبالتالي حالتها وجودة بذورها . تاريخ الجماعة والطائفة وصولا الى تاريخ كل بلدة وكل قرية . كل له مدرسته وجامعته كنيسته وحوزته ارشاده وتوجهه كل له صلاته (الوطنية وليست الدينية )كل يغني على قدسية وجوده : مدارس كاثوليكية ، حوزات شيعية ، مقاصد سنية ، عرفان درزية ، تربية وطنية مستقلة وتربية دينية مستقلة .كل طائفة لها مواردها المالية ولها جبايتها الخاصة ( اخيرا تعلمنا من الجباية اليهودية )، فعندنا جباية شيعية قيد الانتشار ، واخرى مسيحية عالمية ، وجباية سنية عربية ، وجباية درزية في طريق العولمة ، لهم بنوكهم ،وجمعياتهم المصرفية ، شركات ومقاولات ، صناعات وتجارة حرة . نحن في انقسام طبقي شعبي ، طبقات غنية واخرى فقيرة ،عاملة ومتفرجة ،طبقات مسلحة واخرى مُشلّحة ،طبقات مقاومة واخرى عميلة ،طبقات وطنية واخرى خائنة .
هكذا والحبل على الجرار ويكفي ما عندنا وما لدينا ولم يبق سوى ازاحة بعض علامات الحدود ورسم بعض المنعطفات لنصبح كيانات صغيرة ومزارع تزرع جميع أنواع البغض والكراهية والتفرقة ، ولنتقاسم سطور لبنان الرسالة ولنجتزئ منها ما يعنينا في كل كيان صغير . انها الحقيقة ولا مفر من الاعتراف بها وخاصة من الذين لا يزالون ينادون بان لبنان لا يقسم ولا يبتلع .
نعم يا دولة الرئيس بري ، ممكن ان يقسم لبنان لان الشعب مقسم وممكن ان يبتلع ايضا لان هذا الشعب لا يدين له بالولاء فالمسألة ليست بكبره او بصغره بل بالقناعة التامة بنهائية هذا الوطن لجميع ابنائه .
اخي القارئ
لا هذا ولا ذاك ، لا التقسيم ولا البلع ، لا يجدينا نفع الا خيار الوحدة والتكافل والتضامن ، انه الخيار الاخير لنا  ، كلنا مدعون اليوم وبكل جرأة وشجاعة لنعلن الخيار الاخير الواحد المتبقي وهو خيار الدولة . الدولة التي يجب ان نبنيها ونحميها لتحمينا لاحقا ، خيارنا الآن ولاحقا والى الابد . ادعو الجميع الى تحكيم العقل والمنطق ولا سيما اننا على ابواب تغيرات خطيرة وعلى مفترقات مصيرية اما البقاء او الفناء ، خيار بسيط جدا لا يطلب اكثر من الولاء والانتماء .

ملاحظة : نزولا عند رغبة الكثير من القراء ، سأحاول الرد لاحقا على كل الاسئلة التي وردت والتي سترد والمتعلقة بقضايا المنطقة الجنوبية من تاريخ اتفاق القاهرة 1969 وحتى الانسحاب الاسرائيلي عام 2000 . بالاضافة للمقالات السياسية المعتادة . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق