الاثنين، 28 سبتمبر 2020

 

                                    الثنائية الشيعية

                                     نقمة ام نعمة

فتى لم يتجاوز العاشرة من العمر، يهوى الترحال والتجول ويعشق ركوب المسافات، همه خوض المغامرات والاطلاع على كل جديد، فتى اعتاد مرافقة والده في عمله أيام العطلة الصيفية، فكانت من أجمل لحظات العمر التي لا تنتسى ابدا.

قرى وبلدات جنوبية تمتد على طول حافة نظر العيون الصغيرة، نبتت ما بين الشجيرات وبعض اطلال الماضي الغابر، انها بلدات الجنوب اللبناني العامرة بأهل الكرم والضيافة والنخوة والكرامة. رجال اشداء وكهلة اذاقوا الزمان حلاوة الشباب فدعاهم الى قيلولة تحت شرفة منزل او شجرة احتمت ببعض اسلاك الطابو التركي، او خيمة من هياكل الأسواق الشعبية الجميلة، وكم كنت فرحا عندما كان يحالفني الحظ بجلسة صغيرة على حجر تُرك امام مقعد من يدير جلسة الذكريات ومراجعة الدفاتر.

صيفية تلوى أخرى والفتى يتعمق في معرفة التضاريس والوجوه، وتتراكم لديه قصص وحكايات عن اهل المنطقة وعاداتهم وتقاليدهم، وتنحت في الذاكرة أسماء وأسماء للكبار والصغار وها هو بعد حين على السنة الجميع ابن الشيخ أبو نجيب سائق شاحنة الاشغال العامة (النافعة) كما كان يطلق عليها، هكذا كانوا ينادونني وهكذا تمت معرفتي بهم وأصبحت فتى عديسة تارة وميس الجبل تارة أخرى وبنت جبيل وبليدا، قرى متناثرة بطرقاتها المرقعة بالإهمال وساحاتها المشوهة بالوعود. نعم لقد زادتني تلك المعرفة ببؤس وشقاء فوق ما انا عليه من اذلال ومرارة جراء صك اتفاق القاهرة المشؤوم وكأنه كتب علينا نحن أبناء الجنوب ان نعيش سواد الأيام ولعنة الاقدار. نعم هذا هو انا بالذات الذي عرفت الجنوب واهل الجنوب منذ نعومة اظافري، ويا نعم المعرفة ويا نعم الصداقة ويا نعمة الوصل والتلاقي.

لم اعر الطائفية أي اهتمام ولم يكن المذهب يعنيني ابدا حتى اننا كلنا تجاوزنا تلك الكلمات الى حين موعد استذكارها بانتخابات نيابية كل أربع سنوات، وهكذا نعيشها يوما وتموت سنوات. تلاقت الصلوات مع المتدينين واشتدت اوصر الالفة والمحبة مع العلمانيين وتوحد فرح الأعياد وانتصر العيش المشترك دون ان نعيه او نتعرف عليه، الى ان قضى الله امرا ودخلت السياسة العمياء تنهش جسد المواطنة وبدأ الانتماء يعوج والولاء يتغير وبدأت حكاية الأديان وفرحة التبشير وصولا الى قدسية الحجر والوهية البشر.

البقاع والجنوب ، ثنائيان جغرافيان شيعيان امسكا بورقة الفقر والحرمان والإهمال طيلة سنوات منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا، ربما عن قصد او غير قصد تُركت تلك المناطق دون انماء ودون خدمات لأسباب قد نجهلها او نعلمها ولا نبوح بها حفاظا على التوازن العائلي واستمرارية النفوذ الاقطاعي ، ولكن الحقيقة ان الدولة لم تكن المسؤولة الوحيدة عن هذا التردي بقدر مسؤولية زعماء تلك الثنائية الجغرافية وهما الثنائي الاقطاعي السياسي الشيعي كامل الاسعد في الجنوب وصبري حمادة في البقاع ، وهما اول غيث الثنائية التي استمرت حنى يومنا هذا.

ان بؤس الأطراف حرك الهجرة الداخلية سعيا وراء لقمة العيش، فكان الانتقال العشوائي باتجاه العاصمة وخاصة من شيعة الجنوب بعد تردي الأوضاع الأمنية علاوة على الوضاع المعيشية وذلك من جراء الوجود الفلسطيني المسلح على ارض الجنوب وبدء معركة الاشقاء عندنا. وهكذا برزت الضاحية الجنوبية كأحد أبرز المواقع الجغرافية في بيروت والتي ضمت الالف من المهاجرين الشيعة من مختلف المناطق اللبنانية، بالإضافة الى بعض المناطق الأخرى كالكرنتينا والنبعة والمسلخ والتي انتهت خلال الحرب اللبنانية.

سيطر الثنائي الشيعي على القرار الشيعي طيلة الحكم الرئاسي في الجمهورية الأولى، الى ان سطع نجم الامام المغيب سماحة الامام موسى الصدر وتأسيسه لحركة المحرومين عام 1974 التي سرعان ما تحولت الى حركة امل. ان حقبة الامام الصدر والتي لم تدم طويلا حتى تغييبه عام 1978 ناهضت أسلوب الثنائي الشيعي آنذاك بالتبعية للمارونية السياسية مقابل النفوذ والاستمرار، وثبتت الولاء الشيعي للبنان كوطن نهائي وقدمت العيش المشترك على كل شيء من خلال الحرب على الاقطاع السياسي والاجتماعي والاقتصادي ،ولكنها اصطدمت بتفاوت الرأي الشيعي ما بين مؤيد للدخول في الحرب اللبنانية مع الفلسطينيين واليسار(شيعة البقاع وبيروت) ومن يرفض الخوض في هذه التجربة شيعة الجنوب)، ولكن تحول المحرومين من حركة اجتماعية إنسانية الى حركة سياسية أفقدها زخمها الحقيقي ووضعها على حافلة الاتجاه المعاكس بالولاء والارتباط بنظام البعث السوري على انها يده المطلقة في الساحة اللبنانية.

اذاق الوجود الفلسطيني المسلح في الجنوب الامرّين للشيعة من خلال زيادة الأعباء عليهم في قضية لم تكن يوما قضيتهم ولا ببالهم ولا على جدول أعمالهم الممتلئ أصلا بأعباء إرضاء الزعيم وحاشيته. لا يعنيني هنا من يكتب التاريخ ولا يعنيني هنا من يقص علينا استراتيجيات الشيعة المؤيدة لهذا او ذاك وخاصة قضية الأمة، انما ما يعنيني هنا هو الحقيقة التي عشتها سنوات طويلة بين الجنوبيين كهلة ورجالا، شبابا وشابات عرفوا أخيرا ان ما هم عليه ليس ما ارادوه، وان قرارهم السياسي اسير تطلعات الاقطاع وان حرية الرأي عندهم ستتحرر قريبا، وهذا ما ظهر جليا مع بدء الاتصال العلني بإسرائيل عام 1976 وخلال عملية اجتياح لبنان عام 1982 حين استقبل الجيش الإسرائيلي كجيش مخلص من براثن السلاح الفلسطيني.

ان علاقة الشيعة(الجنوب) بإسرائيل ليست خافية على احد وهي منذ قيام الدولة العبرية اتخذت اشكالا مختلفة من الخلاف الدموي(حولا) الى التعاون الأمني والاستخباراتي وذلك حسب معطيات المرحلة ،وصولا الى عام 1976 حين انطلقت مرحلة التعاون العسكري المباشر  تحت ما يسمى بالميليشيا الحدودية تحت قيادة الرائد سعد حداد .افواج من الشباب الشيعي تم تجنيدهم وتدريبهم على يد ضباط الإسرائيليين وداخل الأراضي الإسرائيلية ولكنهم سرعان ما انقلبوا وهاجموا من جندهم ودربهم (معركة الخيام عام 1977 ) وذلك تحت تأثير وضغط منظمة التحرير الفلسطينية وباقي اطراف الشيعة الآخرين. بالرغم من كل هذا بقيت الغالبية العظمى على نهجها الجديد في التحرر من الاقطاع ومن الثنائيات والعائلات حتى انهم شكلوا العامود الفقري المقاتل للجيش الجنوبي. نعم وأخيرا قرر باراك الانسحاب من الجنوب تاركا الشيعة الاحرار لقمة طيبة بفم حوت الثنائية الشيعية الجديدة.

ثنائية شيعية على أنقاض اختها برزت على دم أبنائها وعلى تفاوت ولائها ما بين دمشق وطهران وكلاهما أمعن في تصفية القضية الفلسطينية بالطرق المناسبة له. حزب الله في الجنوب قطع كل يد فلسطينية تنوي المساس بإسرائيل ومنع كل تحرك ضد إسرائيل لا يمر عبر البوابة الإيرانية. ولا ننسى انتفاضته وانقلابه على اخته حركة امل وتصفيتها وقتل ثلاثة من قادتها وكسر شوكتها وجعلها تتقوقع في بعض مناطق صور والنبطية الى ان زالت كليا عن خارطة الجنوب العسكرية (معركة جرجوع وعربصاليم). حركة امل في بيروت حاصرت وجوعت وقتلت الفلسطينيين في شاتيلا وبرج البراجنة في أعنف حصار وقتال ضد الفلسطينيين، فأين القضية الفلسطينية في قاموس الثنائي الشيعي؟ أضف الى ذلك خروج الثنائي الشيعي كليا عن مبدأ نهائية الوطن للإمام المغيب، ليستبدل بالولاء الكامل والمطلق، امل لسوريا وحزب الله لإيران مع تحيات الوطن الجريح.

ضعفت سوريا بعد اشتعال الثورة فيها او الثورات المتعددة الاتجاهات اذا صح التعبير ودخلت ايران بقوة في المستنقع السوري عبر عملائها في لبنان (حزب الله) ، تارة من اجل حماية المقدسات وتارة من اجل حماية لبنان من عدو مجهول ربما من( راجح الرحابنة)،واكبر دليل على استهتار الحزب بالوطن هو قصة القضاء على جبهة النصرة وداعش في البقاع اللبناني بعد جولات قتال شرسة كما قالوا من دون جريح او جثة واحدة للإرهابيين الإسلاميين .نعم ومع وصول الاستهتار الشيعي بكرامة اللبناني وبشرفه وبوطنيته تعود جثث المقاتلين بأهازيج الولاء والطاعة لمرشد الثورة في ايران تتبعها حفنة من دولارات غسيل الأموال و تجارة المخدرات متكفلة بسكوت الأمهات الثكلى والآباء المفجوعين. ولكن الفاجعة الكبرى هي بسكوت هؤلاء القوم ومواصلة الدعم وتقديم الأرواح لمجرد ان السيد طلب ذلك او ان مصلحة الثورة تقضي ذلك او ان نظام الأسد يطلب ذلك، فأين مصلحة لبنان في كل ذلك؟

نعم مع دخول إيران الوحل السوري ازدادت قوة حزب الله وازدادت سلطة الثنائية الشيعية ولكن على حساب حركة امل، وأصبحت الثنائية أحادية بالقرار والفعل وما سياسيّ امل الا مجرد واجهة وغطاء للحزب وما قصة المناصفة بينهما الا مجرد حصة تعطى على قدر ما تعطي تلك القيادات وتغطي وتساهم في المجهود الانقلابي على كل شيء اسمه وطن او شعب لا يؤمن بالحسينيّات ولا بسلطة الله على الأرض. فأين الوطنية والعيش المشترك؟ وهل نحن في نعمة نجهلها ولا نشعر بها او اننا في محنة تعودنا على المها؟

ضربتم عرض الحائط بكل شيء وتخطيتم المحظور وبسطتم الهيمنة على كل شيء بفضل جهلة وحمقى من مسيحيين هدفهم الوحيد هو الوصول الى السلطة ولو بلا كرامة وبلا شرف وبلا عزة. هذا هو ما ارادته الثنائية الشيعية متسولون وشحاذون بلباس مسؤولين وبلغة الطاعة والامتثال.

هذه هي الثنائية الشيعية من الطبقة العليا لمبنى الطائفة الكريمة والتي نجل ونحترم، ولكن اين هي الطبقة الدنيا؟ وأين هي قوى الشعب العامل البسيط الذي يدفع؟، اين هم الذين يتألمون ويجوعون ويُحتقرون في الفعل وفي النتيجة؟ اين أنتم أيها الشيعة الاحرار؟ الى اين سائرون والى اين تؤخذون؟ وبالتالي تدركون عمق الهوة بينكم وبين الشعب اللبناني؟ تدركون انكم على قاب قوسين من ان تصبحوا مرتزقة في الوطن؟ مرتزقة إيران في لبنان؟ نعم مرتزقة في الوطن لأنكم لا تعملون لمصلحة الوطن بل لإيران، وأكثر من ذلك بكثير باعتراف قادتكم بأنكم جزء من جيش الفقيه، وباعتراف اسيادكم بإيران بأنكم جزء من الثورة وذراع الثورة على البحر. نعم اقتربتم من المرتزقة لأنكم في سوريا لمصلحة الغير وأنكم في اليمن لمصلحة الغير وإنكم في البحرين لمصلحة الغير وإنكم في كل مكان تصلون اليه تنشرون الفساد وتزرعون الرعب لا من اجل بناء الوطن وحماية الوطن بل من اجل إيران. إذا بالله عليكم من أنتم بحق؟ وتأتون وتتبجحون بأنكم حماة لبنان من الصهيونية؟ والجميع يعرف ويعلم جيدا بانكم رهن إشارة الفقيه وعلى بورصة حساباته وان بيعكم عاجلا ام آجلا سيتم لمن يدفع أكثر؟

اخي الشيعي

توقف للحظة، ليس بالضرورة ان تكون خياراتنا متطابقة، لك ما تختار ولي ما اختار، ليس بالضرورة ان يكون عدوي عدوك ولا صديقي صديقك، ولكن الخيار المشترك الوحيد هو اننا أبناء وطن واحد للجميع دون استثناء وله علينا ان نحميه ونبنيه بالولاء الكامل والانتماء الابدي.  توقف وراجع الاحداث وتبين الحقيقة من الكذب، ترجل من جاه الهيمنة الفارغ واعرف حجمك الطبيعي بأنك مواطن واخ وشريك، نتألم لألمك ونسعد لسعادتك، نختلف في أمور ونتفق على أكثر، انت جزء من الكل ولا نفرط فيك مهما ابعدوك ومهما علا شأن من يحرك فيك التعالي والطبقية والتفرقة المذهبية.

استبدل الثنائية البالية بثنائية جديدة انا "لبناني شيعي".

  ستعود نعم ستعود مجددا الى أحضان الطبيعة التي ولدتك ابن الجنوب البار، وابن البقاع الابي،

 ابن لبنان الابدي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق