الثلاثاء، 9 يونيو 2015

القضاء للجميع ام القضاء على الجميع ؟


دعيتُ الى حفلة زفاف لأحد أبناء صديقٍ عزيز وكريم ، ولبيت الدعوة بكل فرح وسرور . لم أختر المكان ولا الرفقة بل جلست بمحض الصدفة الى طاولة تضمُّ مدعوين لا أعرفهم ولم يسبق لي أن التقيتُ بهم ، باستثناء صديق قديم جديد بدأت معرفتي به عن طريق بعض الاصدقاء وهو قاضي في الخدمة الفعلية ولا يزال يمارس الوظيفة في أكثر من محكمة .

كالعادة جرى تعارف سريع بين الحضور وتطرق الحديث لأبعد من فرح وزفاف كما في كل المناسبات ، فكانت السياسة المحلية والسياسة الاقليمية وما يدور من حولنا في الشرق الاوسط عامة . سررت بالحديث وبدأنا بتناول المأكولات وحضر المشروب على أنواعه ورغبت في أن احضّر كأسا للقاضي يشاركني متعة هذه السهرة ولكنه رفض بكل أدب ولياقة وعندما أصرّيت على معرفة السبب قال لي : لا تنسى بأنني قاضي والعرف والادب والمنطق يقول بأن لا أشرب لأنني أولا وآخرا قدوة للمجتمع ومثلا يحتذى به ، فما رأيك بمشاهدة قاضي مخمور أو مثقل ؟ أرجو أن لا تسيء فهمي فالوظيفة لها أحكامها وقواعدها وشروطها ، وأنا من الذين يحافظون على توازن المجتمع والدولة ، أتريدني أن لا أحافظ على توازني ؟

لامست جوهره وفهمت من هو القاضي الحقيقي وعرفت الآن أن هذا الرجل المميز في المجتمع يتميز فعلا بالفعل والقول ، فان أصاب عدل وان أخطأ ظلم فالممارسة تبدأ من الذات قبل الكتب ، والمحافظة على الشخصية تبدأ من التصرف الصحيح قبل الشهادة والتقدير .

حملتني هذه الحادثة الى أحداث مرّتْ وسبقتْ ، والى شعارات علتْ ولكنها كانت عرجاء في سيرها وثقيلة في نطقها ، عارية من المنطق ومشبعة من التمييز والحقد والبغض . نعم لقد تلوّث ذلك الكتاب الشهير وتدنس ذلك القسَمَ المقدسْ ،والتجأت المبادئ الى معايير الربح والخسارة والجشع والاهواء ، فكانت الأحكام أشبه بخاتم مختار تركي عجوز لا يفقه من القراءة والكتابة الا أحرف الوالي المبجّل .

صديقي القارئ

تغنى الجميع باستقلالية القضاء وعدم انحيازه لأية جهة كانت ، واستند المواطن الصغير على نزاهة وكفاءة وعدل ذلك الرجل الذي توشح بثوب الوقار واحتمى بقوس العدالة التي لا تتجزأ ، فكان الرهان على الكلمة الحقّة وعلى النطق الذي تخطى الامل . نعم كان الرهان كبيرا، والنتيجة أكبر من حكم ومن قرار، والانتظار حتى تمر السحابة وينقشع الضباب ليفتح الباب ويصرخ الزمن:

محكمة !!!

يقف الجميع مع العلم بأن الأرجل ندرت ، ويسكت الجميع مع العلم بأن الكلام ممنوع أصلا ، ويأتي الحاجب بزيّه المرقط ويؤدي التحية ،، فتقابله عبسة من حواجب لا تحتاج الى حاجب بل الى انارة لترى من أين يُرى ،،، وحده المتهم المسكين يبقى جالسا لأنه ممنوع عليه الوقوف ، ومن يجرؤ على الوقوف بحضرة قضاة جلسوا فوق التهمة والادلة لمنع الخرق والابتزاز ؟

أخي القارئ

مأساتنا مع القضاء بدأت منذ أن استقل القضاء عن الحق والعدالة والشفافية والمنطق، بدأت مع بداية بدعة الإرضاء و"جبر الخاطر" كما يقول المثل العامي ، ومع مسلسل الانتماء والتبعية أصبحت الأحكام جوائز ترضية تخطت المألوف والمتعارف عليه وقفزت فوق المشرّع وأدبيات النقاط والحروف .

مأساتنا مع القضاء بدأت منذ أن اصبحت الوطنية قضية والقضية باب رزق ، والرزق هدف والغاية تبرر الوسيلة ،فقوس العدالة اصبح كقوس قزح متعدد الالوان والاتجاهات يبرق ويلمع مع تبدل الضوء على ضوء ما يُبدلُ القاموس من مصطلحات تتفق مع اللغة الصعبة .

 محكمة !!

بقدر ما هذا الصوت يدبُّ الخوف والرعب ، يدبُّ أيضا الامل والتمني بسماع كلمات تزيح ثِقلَ الهمَّ وعذاب التوحد ، ولكن بقدر التسليف يأتي التكليف ويخرج الحكم النظيف بثأر لطيف ، فيعود الكل راضيا وقانعا باستثناء الحق الذي أُهدِرَ حقه باسترجاع كرامته وشرفه ، ويُغلقُ الملف وتُفتح خزنة أخرى وهكذا الى أن نتمنى لهم التقاعد المبكر والله سميع مجيب .

ما من فساد أكثر أذيّة من الفساد القضائي ، وما من فساد يدمّرُ المجتمع أكثر من فساد القائم على اصلاح المفسد وتأهيله ، حلقة تتشعب وتتمدد لتطال البنية الاساسية للمجتمع ، وعندما تتمكن لا يمكن العودة ولا التقدم فتقف الامة عاجزة عن الترميم وتتراجع الثوابت ونفقد التوازن الى التلاشي والزوال .

ثلاثة مكونات أشبه بقاعدة حسابية اذا تخلفت احدى ركائزها بطل فعلها ، القاضي والنيابة والدفاع ، وكلهم أبناء مجتمع واحد جلبهم التكوين وصنفهم التعليم وجمعهم الخطأ ،وبالتالي كلٌ بحاجة الى الآخر وكلٌ يكمل الآخر واذا فسدَ واحد فسدَ الآخر ، فما بالك بالثلاثة الفاسدين؟

انتهت الوصاية وانتهى الاحتلال السوري وانتهت معه محاكمات الترضية وأحكام البيع والشراء، وانتهى معه عهد من الفساد العلني عرفه كل مواطن في بلدي. معادلة بسيطة :النصف للقاضي والربعين للآخرين ، والسعر حسب التهمة وحسب الرتبة وحسب الحسب والنسب ، والاهم من كل ذلك جعبة المتهم وما تحويه من عملات صعبة أو عقارات أو سندات وكلها قابلة للتداول في سوق أسهم القضاء الوسخ . نعم مرحلة قطعتْ وتقطعتْ معها سبلُ الاصلاح ولكن: أيعقل بعد هذا أن نترك ذيول تللك المرحلة تهيمن من جديد على واقعنا القضائي؟ أم أنَّ الفساد متأصل لا يمكن ازاحته؟

صديقي القارئ

لا مجال للشك ولا مجال للتخمين ولا مجال للخطأ أبدا في قراءة أحداث قضية ميشال سماحة " لا سامحه الله" ، فالوقائع واضحة والادلة دامغة والاعتراف الصريح سيد الموقف بالصوت والصورة والاعتذار، فلماذا هذا الاستهتار بالرأي العام ولماذا هذا الذل للحق للعام ، ولماذا هذا الانحدار والانحطاط الاخلاقي من قبل محكمة أقل ما يقال عنها انها عسكرية اي انها آخر ورقة رابحة للحق اللبناني ، وآخر ملجأ آمن لكل مظلوم ، عسكرية : اي الانضباط والحزم ، الشرف ! شرف المواطن والوطن والحق العام، التضحية! التضحية بالمصالح الشخصية لصالح المجتمع والكيان، الوفاء! الوفاء للقسم العظيم بالمحافظة على البلاد والعباد ، ولكن سوابق المحاكمات عندنا كثيرة وللتذكير لا للتشهير ، من محاكمة قاتل الطيار سامر حنا ، هذه المحاكمة السخرية والمضحكة وبراءة المجرم على يد مجرم آخر تثبت ايضا أنَّ الفساد جزء لا يتجزأ من منظومة السلطة المستقبلية المنتظرة، وقبلا محاكمات ضباط وعناصر الجيش الجنوبي وما رافقها من عمولة ونسب مؤشرات بورصة الجيوب ، ناهيك عن أرجوحة المحاكمات للإسلاميين الذين لا يزالون يقبعون تحت نير الاعتقال التعسفي ،نعم عزيزي القارئ فأنا لا ابرأ ساحتهم ولا أدينهم كذلك ، بل أنتظر كغيري من اللبنانيين نتائج المحاكمة وعدم التمادي بخرق حقوق الانسان وخرق أعراف الحرية والعدالة والمساواة. محاكمات ستبقى وصمة العار التي لا تمحى من على جبين كل قاضي ومحامي وخاصة ذلك الوغد الفاسد عدنان عضوم وزمرته من اولياء الامور من النظام الامني اللبناني السوري وعلى رأسهم سيء الذكر اميل لحود.

اخي وصديقي

 

السؤال الكبير: بعد كل ما ورد على لسان المجرم ميشال سماحة واعترافه الواضح بضلوع الرئيس السوري مباشرة في هذه القضية ومدبر اغتيالاته علي المملوك ، وبعد ثبوت العمل الجرمي من ناحية النية والامر بالتنفيذ على هذا النظام ورموزه ، بعد هذا : أين موقف حلفاء سوريا من هذه القضية ؟ وهل سكوتهم علامة الرضا أو النأي بالنفس ؟ وهل الدولة اللبنانية عاجزة الى هذا الحد عن اتهام من هو ضالع فعلا بالقضية؟ وهل سفك الدماء اللبنانية لا زال الشغل المسلي لزمرة دمشق وجوقتها اللبنانية ؟الى متى؟ الى متى ايها اللبناني؟ الى متى ستبقى صامتا ؟ متى ستصرخ عاليا دون خوف وتضرب يدك على طاولة الحق وتقول لهم:

انكم شركاء في هذه الجريمة سواء نكرتم ذلك بالصمت او بالكلمة ، انكم أعداء هذا الوطن وانكم أعداء هذا الشعب ، وسيأتي يوم قريب انشاء الله وستحاسبون على كل ما اقترفت أياديكم من أعمال إجرامية بحق هذا الشعب المسكين .

أخي القارئ

لا أقرع طبول الحرب ولا أنشد السلاح، بل أطالب بثورة سلمية نظيفة حضارية بالتصدي لهؤلاء القتلة بتوعية تابعيهم وتوعية المجتمع من مخاطر ما هم عليه وما هم سيقدمون عليه. أطالب الشباب اللبناني المثقف المدرك لمخاطر التسلط والهيمنة أن يعيد حساباته ويعيد تقويم خياراته، ويضع مصلحة الوطن فوق كل مصلحة. كفى للطاعة العمياء ، كفى للولاء المطلق ،كفى للتضحية الرخيصة . أطالب الدولة ومهما كلف ذلك من ثمن بتحويل اعترافات سماحة الى محكمة الجنايات الدولية أو المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ، أو الى مجلس الامن الدولي على أساس التدخل السوري المباشر بالأمن الداخلي اللبناني والعمل على زعزعة النظام والهدوء والعيش المشترك اللبناني . ليكن ما يكن وليحدث ما يحدث.  وكما قيل:

شو هلّي أخذك على المرْ؟  قلّو الأمرْ .

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق