السبت، 5 يناير 2013

الرسالة السادسة

                                      بائع التين
رُسمت بريشة الهيّة ، تتأرجح بين التلال ، تعانق الهضاب وتأنس الجبال ، تحركها نسيمات وتوقظها قطرات ندى تدحرجت على خدود ازهار فلشت ارضها وحدائقها وغطت سقوفها . انها قرية هَنَأتْ بسكون الطبيعة ونامت على ارجوحة الليل الصامت ، انها القرية التي تنهض لتوقظ الديك ليصيح ويعلن بدء صفحة من صفحات الحياة .
ولد بائع التين وولدت معه حكاية كانون تتنقل بين السهرات الدافئة فكانت على كل شفة ومبسم . ولد وترعرع بين احراج الصنوبر وغابات السنديان والزيتون ، كبُرَ وكبرت معه دوالي الكروم لتحسِبَ له سنوات عمره بعد كل ضيافة تين او لحسة دبس او لقمة معقود .
شبّ على حب الطبيعة وشغف الحرية المطلقة ، تراه قرب الجداول وخلف الصخور ، وسط الحقول بين السنابل والشجر ، بائع التين هذا ، اسطورة الرجال وحلم الاطفال وقصة الاجيال .لم يرغب العلم ولا الحرف ، فكانت الطبيعة مدرسته ،  والعرزال صفه ، قلمه ناي قصب رقيق ومحفظته سلة وكم فيها من سطر وحرف عتيق . لم يقرأ ولم يكتب ولكنه يعرف صاحب كل شجرة وكل نبتة ويحسب المواسم ويعرف مقدار الخير فوق كل غصن وعلى كل جذع، لا يفقه الحساب بل يُحسب له الف حساب . انه كالضباب ينساب فوق الاشجار ويلامس العشب ، دائم الحضور سريع كالشاهين ، انه الفتى الاسمر احيانا والحالك احيانا اخرى ، ذاك الذي طُرِدَ من جنة الآلهة ليعود من آلهة الجنة .
حكايتي مع بائع التين حكاية قصيرة جدا لا تتجاوز بضع سنوات من الطفولة الصاخبة ، فكنا اتباع حارتين متجاورتين تشوبهما علاقة توتر دائمة على خلفية حق اللعب وترسيم حدود جماعات الاولاد المنتشرة بينهما ،فكانت رشقات كلامية احيانا ، وصراخ ورمايات حجارة وحصى احيانا اخرى ، في نزاع حول ملكية بيدر او جلِّ او ظل شجرة . هكذا تجاوزنا بعض المحن الجميلة وبعض قفزات العمر المضيئة وانتقلتُ انا الى بلدة اخرى ومن ثمّ انتهى بنا المطاف كل في مكان ولم نرَ بعضنا البعض منذ ذلك الحين . كنت اسمع عنه الكثير واتابع قصص نضاله في العيش الكريم ودأبه المتواصل على ادب الحياة في السلوك والمعاملة ، فكان يُضرب به المثل كلما دعت الحاجة الى شهادة في الحسن ، فعلا كنت اتابع كل تحركاته وانتابني الفضول لمعرفة المزيد عنه والتقرب اليه اكثر حبا بدراية المجهول وكشف المستور .
لا شك انه لقاء الغرباء بل لقاء المتناقضات ، لقاء عالمين مختلفين ، لقاء الجهل بالمعرفة والحق بالباطل ، لقاء الذكرى بالحاضر والامل بالخيبة . حزمت امري وهيأت نفسي للقاء انتظر منه الكثير لإحياء ما رُسم منذ وقت بعيد وبعيد جدا .
أأنا في حلم ام في حقيقة ، لا ادري كيف ولا اذكر شيئا سوى بضع كلمات تسربت عبر شفاهي ووجدت نفسي امام من كنت لا اصدق ابدا رؤيته في هذا المظهر ، ووجدت نفسي ملتمسا بعض العبارات المُنقذة ،،، أأنت بائع التين ؟
مددت يدي وصافحته طويلا ، ليس من باب الاحتفاء باللقاء بل من شدة الدهشة وعظمة المفاجأة ، وسرحت في واقع اقرب الى الخيال مستنجدا بأعجوبة تحملني بعيدا وبعيدا جدا . افقت على صوت اعادني الى حيت انا : نعم انا بائع التين البّي الطلبات واسهر على حسن التنفيذ ، اراعي الدقة في التسليم واحافظ على المواعيد ، احترم اذواق الناس وحاجتهم الى الجودة والنوعية الممتازة .
نظرت اليه متأملا فاحصا ، وكم ادهشتني تلك البذلة السوداء الرسمية وربطة العنق الملونة ، وذاك الحذاء الايطالي اللماع المتباهي بشرائطه التي تناسب ربطة العنق تلك ، تأملته واقفا امام سيارته السوداء المهيبة وتسألت : منذ متى يُنقل التين بسيارات طويلة ذات ستائر فاخرة وبحماية من اللصوص والغادرين ،ومنذ متى تؤخذ الطلبات عبر الهاتف المحمول والانترنيت ، ربما اصبحنا في عصر تكنولوجيا التين ونحن لا ندري ؟
اعدت طرح السؤال : أأنت بائع التين فعلا ؟
بصوت لا يخلو من العتب والسخرية والامتعاض قال: اسمع يا هذا ، يا صديق الطفولة وبعض ايام الدراسة الخجولة ، انّ كل ما في الامر هو انني تقدمت في العمل بعد ان ازدهر وراج ، وانت تعرف ان موسم التين لا ينتهي بل يتجدد دائما من الطازج الى اليابس وبالتالي الى المعقود .نعم كل ما الامر اني تابعت التقدم ورافقت التكنولوجيا ، وتفتحت عيناي على امور كانت شبه مُحرّمة او تحت شعار ممنوع الكلام والتعاطي ، فاستبدلتُ السلة بالسيارة ، والصراخ للبيع بآلة الهاتف الناعمة الهادئة ، ولمّا كانت تجارتي قد ارتقت الى مستويات اعلى واعلى ودخلت صالونات واروقة برّاقة، اضطررتُ الى تحسين مظهري واتّباع بعض اللياقات التقليدية . يا صديقي ، اني اقابل اناسا يحترمون ما يرون اكثر مما يعلمون ، ويدفعون طالما انهم لا يسمعون . هذا هو بائع التين الذي يقف امامك فلا تعجب للأمر وتقبله على انه عمل لا اكثر ولا اقل .
عاجلته قائلا : اعجب لأمر التين هذا وكم يدر من ارباح وارباح ، واستحلفك بالله ان تجاوبني اتبيع التين ام ورقه ؟
علت ابتسامة عريضة على مُحيّاه ورتّب على كتفي وقال : سأقول لك سرا شائعا بين الناس ، ان بضاعتي مرغوبة جدا والجميع يريدها . اتذكر صراعنا في الحارة حول احقية اللعب في البيدر او جل منصور ؟ انه الآن صراع من نوع آخر ولكن صدّق يا عزيزي ان من يجمع الجميع يفرّقُ الجميع ، وان ما يجمع ما بين الست سلمى والريس فؤاد هو نفسه الذي يجمع ما بين السيد علي والخوري سعد ، والعكس صحيح ، والكل متفق على ان هذا التين هو البلدي الاصيل والجيد ، صحيح ان التين مفيد للصحة ولكن ورقه مفيد للسمعة والسيرة الحسنة ، فهو "يستر العريان ويطمئن الجبان ويشجع على النسيان " .
صافحت بائع التين مودعا على امل ان لا القاه ثانية ، وغادرت بخيبة امل مريعة وبندم عارم . لم اتمالك نفسي من السماح لدمعة صغيرة بالتدحرج فوق خدي البارد واقفلت عائدا مثقلا بألف سؤال وعلامة استفهام .
يا بني،
حكايتي مع بائع التين هي واحدة من آلاف الحكايات والقصص التي تحصل كل يوم في مجتمع مزقته المظاهر الكاذبة والخادعة. انه مجتمع الصدق فيه عار والعار فضيلة، فيه الحلال مسخرة والحرام مفخرة،
يا بني
مهما ساءت الامور وعظمت المآسي ، وتقلبت بك سبل الحياة ، فابقَ على التين ولا تدع اوراقه تغريك ابدا .  تتساقط الاوراق وتتعرى الغصون ، ويبقى الجذع صامدا في وجه الريح والاعاصير، ليعود ويتجدد وتستقيم الامور ، وتدب البركة مرة اخرى .
يا بني
ليست الشجاعة بالساعد المفتول فقط ، ولا بكف العطاء والسخاء ، بل ان ثمة شجاعة اخرى في الادب الاجتماعي العام ومسالك الحياة السليمة والشريفة ،شجاعة الانسان في الانسانية ، وقيمة الاستقامة لدى الانسان .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق