الأحد، 1 يناير 2012

علاّقة

حزين وكئيب ، وكأن هموم الدنيا فوق كاهله المُثقل اصلا بسنوات طوال من العمل والجد والكد . جلس شاهين ينظر الى الافق البعيد ، ينفخ ما استطاع من نفس ليوقد موقدا شارف على ان يخمد ، محاولا تحضير فنجان قهوة تحت تلك السنديانة العتيقة التي شهدت ولادته وولادة ابنائه واحفاده .
قصة شاهين قصة طويلة وطويلة جدا ، كقصة السنديانة نفسها بدأت منذ فجر التاريخ حيث كان لشاهين الطموح لما يريد ، والارادة لما يريد ان يكون . ترعرع على حب الطبيعة من الارز وشجرة الليمون الى السنديانة الى نبتة التبغ التي شربت من عرقه لتعيش قبل ان يشربها وينتهي .
جلست بقربه محاولا ان احرك الصمت وان ادفع بالحروف لتجتمع علّها تطلق كلمة تكسر هذا الهدوء المقلق ، نظر اليّ ثم نظر ثانية فقلت له نعم وكأني احثه على مشاركتي بعض ما يعانيه . ثبت لبادته على راسه وشد زنار سرواله وانحنى على الارض وحمل حفنة تراب وتركها تنساب من بين اصابعه تاركا للريح حرية العبث بها وتنهد قائلا :عليها ولدت ، ولأجلها عشت ،وسأعود اليها كلما اشتقت ، زرعت فيها الامل وسقيتها الرجاء ، حصدت منها الثبات وفخر الولاء،، انها الارض ، انها الاصل ، انها الزمن الذي لا ينسى ، والقدر صاحب الباع الطويلة ، والايام كثر ولكنها قليلة .
حملني شاهين من حاضري وقدمني للحقيقة ، وسلمني للزمن وخبأني في الذاكرة ، وما بينهم مشوار طويل ، تعاقبت عليه الامطار والرياح ، ولونته الثلوج وصدعته زلازل ، مسيرة بثبات الى انزلاق الى مراعاة خواطر ، ثم خرق المحظورات واباحة المحرمات .
صعد شاهين ذاك الجبل الشامخ وقال اتبعني ولا تسأل ، تأمل ولا تتكلم ، دع الصمت يخبرك والعبرة تقنعك ،صعدنا ببطء وثقل ووجل ذلك السفح المنقش بشقائق النعمان وورق الغار ، تنبسط تحت الصنوبر والشربين ، تحاول عصر الزيتون وسلق البلوط لتمد ساكني هذا الجبل بعصارة الخلود .حديقة غناء ورياضٌ معلقة تزاحم الغيوم في ملعب السماء ، كل شجرة تقصُّ قصة وهي القصة بذاتها نقلناها جيل بعد جيل الى ان اصبحت اسطورة ، والاسطورة حقيقة ، والحقيقةُ تقال ان الحقيقة كذبة بيضاء احتراما لأبطال الحقيقة .
لم اتمالك نفسي بالرغم من شدة بأسي ، وحبست انفاسي الى ان فلت مني صمام المعرفة وثار بركان صدري وصرخت :يا الله ،،،يا الله ،،،وكانت صرخة من الاعماق ايقظت الشواهد ، وتحركت من تحت الثرى جذور اورقت حروفا واُلصِقتْ دروسا على هياكل كانت من الامس هامات يحسب لها .
جلست بالقرب من عود ثقبه الزمن ورشح منه قدر وافي من اجوبة لا اسئلة لها . من انت ؟ ولماذا ؟ وكيف ؟ ،،، بكيت وبكيت على خبر لا اعرف بدايته ، بكيت من قصص وروايات خُلّد صانعوها وغاب ذكر ابطالها ،ولكن من يتكلم ومن يجرؤ ومن يصدق ، لا احد كلهم شواهد ، والشاهد لا يتكلم لأنه لا يرى ولا يسمع بل يعظ ويهدي ويدل وينصح .
حمل شاهين معوله وراح ينبش التراب ويقلّب موجات من اسرار خبأها التاريخ والبسها النسيان ، وأكفهرّ وجه شاهين والعرق ينزلق على خديه مصطدما بمطبات رسمها الزمن وحفرها التعب والشقاء . وقف والتفت اليّ وقال : هذا منزل شهيد، وهناك آخر ، وتجمع آخر فوق ، وآخر ،،وآخر ،هل ترى ؟ هل ترى ؟ وبدأ يقفز ويقفز ويروح ويجيء متنقلا بين تلك القبور محركا الشواهد وكأنه يدق الباب او يطرق نافذة ووقف : هنا قاعة الامراء ، فخر الدين وبشير ، هنا من حارب العثمانيين وربما ندم ، وحارب الفرنسيين والتجأ اليهم ، وآخرين ، شهداء اصحاب واغراب ، عابروا سبيل ، اتعلم لم يصلّوا ابدا كانوا كفرة نعم كفرة ، كفرة بالطوائف والمذاهب ، مؤمنون بالله والوطن فقط ، لذلك سموا بشهداء . شاهين يركض ويتنقل ولا استطيع السيطرة عليه او مجاراته في الحركة رجوته ان يتوقف وقلت له : كفى بالله عليك كفى . جلس اخيرا ووضع راسه بين يديه ودموعه تبلل يده ، هنا سقط الرجال من كافة المناطق اتوا ليسقطوا عندنا من المنظمات والاحزاب والتنظيمات ، ابناء البلد وابناء الجيران ، اغراب احبوا الموت عندنا لأنه يجلب لهم الجنة والخلود ونحن اصحاب الارض واصحاب المهن الحرة خبراء الصلاة والدفن والتعزية ، ولا تنسى ابدا تشعب الثقافة عندنا نصلي بكافة اللغات وندفن حسب المعايير الدولية . لا ادري هل اتوا للدفاع عنا ؟ ام للدفاع عن قيم هم آمنوا بها ؟ شهداء من اجل لبنان ؟ واي لبنان ؟ ماذا قدم لهم لبنان بعد الشهادة ؟ هل هذا هو الوطن الذي ارادوه ؟ ام هذا هو الدور الذي لعبوه ؟ تعددت الاسباب وتبعثرت الجمل ، وتراكمت عبارات الحزن لفراق الرفاق ، علت الشواهد فوق بعضها علها تنهي ما قبلها وهكذا لوحة فوق لوحة وتاريخ فوق تاريخ لتجد طريقا الى مكتبة اعماق الضمير البشري . ويعود شيخ من هنا وامام من هناك وناسك ما بينهما ليقولوا انهم شهداؤنا وليرحمهم الله ويسكنهم فسيح اعماقنا .،
 لا ادري يا بني لعلي كبرت بالسن وخانتني الذاكرة ، كل يوم آتي الى هنا لأحفر وازرع وكل مرة اجد شاهدا جديدا وسائلا يسأل نفس سؤال الذي سبقه : اين اصبحنا ؟ هل شفينا من آفاتنا ؟ هل ما زلنا بحاجة الى شواهد اخرى ؟ وهل كتب علينا الموت من اجل الموت ام اننا في طقوس ونذور ؟ وهل اصبحت الشهادة عادة عندنا ؟ لا اعلم ربما ستصبح عادة سيئة بعض الشيء.
حاولت تهدئة شاهين بالسكوت المطلق وطاعة الاستماع ولكنه ازداد انفعالا واستمر بضرب معوله هنا وهناك وفجأة ،،، شقت الارض وانتصب مارد بحلة انيقة ودنا هامسا : ماذا تفعلان هنا ؟ ومن انتما ؟ افقت من الصدمة لبرهة وجمعت بقايا شجاعتي ونظرت اليه جيدا ، يا للهول ويا للعجب افي حلم انا ام في يقظة ،  لقد عرفته ، نعم لقد عرفته ، انه علاّقة ،، علاّقة قائد ثورة مدينة صور ، منذ فجر التاريخ والناس تردد وتردد " عزٌ بعد فاقة ،ثورة علاّقة " والتفت ناحية شاهين فأشار بنعم انه هو . اعادت رشدنا صرخته تلك : " اسمعوا اعرف كل شيء منذ موتي قبل آلاف السنين ولا شيء تغير ، يكفي ما تحملته في حياتي من مصاعب ومصائب ، ويكفي خيبة الامل من احفادي بالرضوخ والقبول بما لم اقبل به لهم ابدا، اريد الهدوء واطلب منكم المغادرة وعدم العودة ، وازرعوا في مكان آخر،،، واختفى علاّقة وغاب ،،،
عدنا الى الصحوة وامسكني شاهين وقال : تعالى يا بني ،، في هذه الارض يزرعون الموت ليحصدون المناصب .



                                                                 25/12/2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق