الجمعة، 4 نوفمبر 2011

دمعة راجح

  صامتة وهادئة تتهادى بين احراج الصنوبر والسنديان ، تودع الغروب وتمسك بآخر ذرة دفء من الشمس لتدفىء بيوتها المتناثرة بين حقول التوت والكرمة ، تعالت الأهازيج والصيحات بقدوم راجح الى تلك القرية الجنوبية وابصاره النور في عائلة متوسطة الحال وميسورة ولكنها لبنانية اصيلة بجذورها اصالة الزيتون والملّول ، اصالة حرمون وعمامته البيضاء .ولد راجح وولد اخاه التوأم في ذلك اليوم "اتفاق القاهرة" 1969 ولكنهما من امّين مختلفتين ، راجح من ام لبنانية "والاتفاق" من ام عربية .
فرح اهل القرية بمولودهم الجديد وفرح العرب بمولودهم المخلص من الحرج والخجل .كبر الأثنان معا كل على حساب الآخر ، تارة يقوى راجح وتارة اخرى يقوى "الاتفاق" وتتصادم الأفكار والمواقف وتتشابك الأيدي في بعض مواقف ، راجح مصمم على الثبات في ارضه ومدرسته في بيته وحقله ، واتفاق القاهرة مصمم على اقتلاعه من قلعته واستباحة ارضه وارزاقه واعراضه وكرامته .كبر راجح وكبرت معه المصيبة وارخت الكوارث المتلاحقة بذيولها عليه وعلى بلدته وبالتالي على كل المنطقة . بدأ يستغيث ويطلب النجدة من امه الكبرى الساهرة على مصيره ومصلحته ، استنجد بدولته ولكنها كانت في طريق حل شعرها وقطع آخر شعرة مع راجح .هكذا يوم بعد يوم وساعة بعد ساعة وجد راجح نفسه وحيدا مستفردا مشردا تائها بين غرف منزله المتواضع متنقلا بين نوافذه المحطمة علّه يأنس لمشاهدة قريب او صديق او فاعل خير .
بكى راجح ،،وذرف الدموع ثم بكى وبكى الى ان جفت المآقي وشققت الخدود ، بكاء من خيبة الأمل ، بكاء من غدر الشقيق قبل الصديق ، بكاء التفرقة والتصنيف ، وانتفض راجح وقال يكفي .. يكفي .. كفانا ذلا وكفانا هوانا.. كفانا خمولا وعتبا، كفانا نحيبا على الأطلال والأمجاد... ومشى ..
التقى راجح براجح آخر من بلدة اخرى ، وآخر .. وآخر وهكذا رجحت كفة راجح الكبير وبدأ الاتفاق يخاف على حروفه وبنوده ، وبدأت اوراقه تتساقط كأسماء صانعيه ومربيه .صمد راجح بعد هجر امه ، بعد ان تركته وحيدا لمصيره محتارا بين الخيارات والقرارات بين السيء والأسوأ ، بين القضاء والقدر .
اصبح راجح القضية ، وكبرت معه القضية وباتت محور الحديث واحداث الوطن كله وراجح لاعب مهم في هذه القضية ، طالبته حناجر من بين انقاض الدولة ورجته كل الرجاء ان يبقى : اصمد يا راجح وتابع طريقك مهما كانت الصعاب فانا قادمة اليك لا محالة  وسنعود وسنبقى معا مهما طال الزمن ... وتشجع راجح وتابع قتاله وتضحياته غير عابئ بالصعاب والمشقات .
كانت الدولة تأمره وتنهيه ، توجهه وتحذره وكان الأبن المطيع دائما . امرته بجمع كل راجح يستطيع ، وكل من يهوى لبنان والأرز ، وامرته بالدفاع عن الجنوب وعن ما تبقى من كرامة وعزة الجنوب امرته بالدفاع بموجب فرمان وزارة الدفاع وطالبته بإسقاط آخر ورقة بيد "الاتفاق" واخبرته بان اعدامه اصبح ضروريا في عرينه ومملكته قبل اعدامه في مسرح البرلمان ، وفعل راجح مع الأصدقاء والحلفاء وطرد "الاتفاق" من دويلته الى غير رجعة . تنفست الدولة الصعداء وامرت مأمور النفوس بمحو اسم "الاتفاق" من السجل وانتهى ومات توأم راجح المشؤوم والغادر وسجلت الدولة انتصارا من عرق جبين ودم شريان راجح واخوته .
تنفس راجح ايضا الصعداء ومعه جمهور كبير آمن بالخط السليم الذي اختاره ، خط السلام وحسن الجوار ، الاعتدال والاحترام المتبادل ، خط البناء والازدهار. خط رسمناه لأنفسنا بأنفسنا واذا ما قبلت به الأم الحنون لها الحق في تغيره كما تشاء وابداله بخط افضل لنا ولها . هكذا فكر راجح وصدق وطلب من الجميع ان يصدقوا وكيف لا والدولة هي ام الجميع واخت الجميع ولكنها كانت في تصرف آخر وفكر آخر تلعن ام الجميع على اخت الجميع خوفا وارضاء لشقيقة الجميع . نسيت راجح ونسيت عذابه والمه ، تنكرت له ولتضحياته ، انكرت صلتها به ورفعت عنه الغطاء ليبرد وليسقط حزينا مريضا ، ولم تكتف بذلك بل صبت جام غضبها عليه ، جرته الى غياهب السجن ، تركته جائعا وعطشا ، ولكنه لم يذل بل هي كانت الذليلة لأنها كانت تعلم بانها الظالمة وانها البادئة وان ما اقترفت يداها لا يغتفر ولا ينسى بسجن او بقتل او بنفي ، وانها كانت تعلم ان ارادة راجح اقوى من ارادتها المرتهنة والمجيرة والمأجورة .
التقيت براجح والبسمة تعلو محياه وقال لي ضاحكا :مسكينة هذه الدولة فهي لا تعي ماذا تفعل ولا تدرك انها في لعبة لا تنتهي الا بانتهاء هذا الوطن ، مسكين "راجح هذه الدولة" كيف ينام وكيف يشرب ويأكل وكيف ينظر الى اولاده بعد ان حرمنا من اولادنا ، وكيف يتأقلم مع ضميره ، مسكين "راجح هذه الدولة" اني اشفق عليه لأنه سقط من معادلة المواطن الصالح والمثل القدوة والعنوان الصحيح .مسكين "راجح الدولة " كم هو غبي واحمق اعدم "راجح الحرية" وثأر لأم "الاتفاق" ، وكم من راجح سيعدمون ليرضوا أمّ اتفاق آخر ، واخت اتفاق آخر.. أسيبقى في لبنان من راجح ليقدم على مذبح الاتفاقات ؟
اني عائد الى قريتي الى بيتي وحقلي ، الى وحدتي وصلاتي انتظر ولادة راجح آخر علّه يحقق ما فشلت في تحقيقه .   
   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق