الثلاثاء، 5 مارس 2013

الرسالة الثامنة

                                المعرفة
حبست الدموع واطلقت الصراخ فلم انجح ، حاولت ان احبس الانفاس واطلق الدموع فلم انجح ايضا ، فانا ضعيف في الحالتين بل انا في قمة قوة الضعف . لا نفع في الدموع ولا نفع في الصراخ فالنتيجة واحدة وهي الفشل ثم الفشل. احاول الهروب من شيء يهرب مني ويعدو بعيدا عني ،احاول الهروب من ذاتي لأني لا اقدر على فهم واستيعاب ما انا بحاجة اليه . ترى ما الذي احتاجه لأكون انا ، وما ينقصني لأجعل من ذاتي ذات " الأنا " ، ربما افتقد لمعرفة ماهية " الأنا " ومن " أنا " .
انا رجل وجدت الحياة من جهد البقاء ، ورغبت البقاء رغم الشقاء. انه التحدي في جعل الاستمرار سهلا والسعادة هدفا ،فكلما بعُدَ الهدف ازداد الشوق وغاب اليأس ، ترى ايمكن ان اصل قبل الوقت ؟ .
حلّ الوجود ضيفا دون دعوة او اذن ، فأصبحتُ جزءا من ذاك الوجود ، اكافح واناضل ، امرض واتعب واشقى من اجل هذا الوجود ، ولا اعرف في الحقيقة  سبب وجودي او ما اوجب وجودي فيه . هل بقائي سيغير شيئا ؟ هل كان سيتغير شيئا لو لم اكن ؟ هل يأتي هذا البقاء بفارق يساوي هذا الجهد ؟ لا ادري ، كل ما اعرفه هو انني هنا وموجود ، ولهذا سأنطلق بكل قواي وبكل ما اوتيت من ارادة وصبر وطموح .
يا بني،
ان المعرفة هي الحجر الاساس لتحديد الشروط المطلوبة للبقاء والاستمرار ،  فمعرفة الذات قبل كل شيء هي القناعة بالذات وبالتالي القبول بما هي عليه اي بمعنى ان نقبل ذاتنا كما وُجدت وبقبول اقرب الى الايمان بالشكل والمضمون منه الى التسليم بالأمر الواقع ، وبالتالي هي الفكرة الرئيسة التي نبني عليها التطلع الطّموح من خلال تثبيت الحاضر وتهيئته لانطلاقة اخرى بعد تصحيح ما اعوج وانحرف سابقا . لقد قيل " انا افكر اذا انا موجود " ، وانا اثبت العكس الصحيح بالقول " انا موجود اذا انا افكر " وبغض النظر عن قيمة الفكرة او نتائجها فلا وجود دون ادراك بالحد الادنى بدءا من الانسان حتى اسفل الخلق . اذا انّ الوجود يفرض فرضية التفكير من اجل البقاء ، وما يفرضه من تأمين للمأكل والمشرب والمأوى ، ليُصبحَ مقياسَ وجود الانسان وليؤكّدً حضوره بنتيجة وبتأثير .
يا بني
اختلفت مستويات المعرفة بين مجتمع وآخر وبقيت خاضعة للمعرفة الفردية  التي كوّنت مع مجموعة اخرى من "معارف متشعبة " معرفة كبرى رسمت حدود تعريف المجتمع المنتمية اليه . ان تباين مستويات المعرفة لا يمس قيمة هذه المعرفة ولا يمس فعالية دورها سواء في دفع عجلة التقدم او العكس كما الحال في معرفة الاجرام والارهاب والتدمير ، فكل معرفة لها اطارها ومسلكها ونتيجتها . ان معرفة  البناء لا تقل اهمية عن معرفة المختبر مثلا ، وهذا ما يوصل الى مساواة اصحاب هاتين المعرفتين بالقيمة المطلقة لكل معرفة ، وبالتالي فان عالم ذرة لا يستطيع تصليح سيارته كما هو الحال مع عامل الميكانيك الذي لا يفقه ابدا بعلم الذرة . اذاً ان كل معرفة لها قيمتها الخاصة ولها تقديرها ومكانتها وما على الفرد الا اختيار معرفة تناسب امكانياته وعطائه وتناسب بنيته الفكرية والجسدية ليكوّن معها وجودا فاعلا  .من هنا نرى انه يمكننا معرفة انفسنا من خلال ميلنا اولا وقدرتنا ثانيا على اتخاذ المسلك الايجابي في حياتنا .
ايها الشاب
اني انقل اليك خلاصة عشرات السنين من المغامرات والتجارب التي وقفت كلها بأسبابها ونتائجها على قدر المعرفة بظروفها والتصرف حيالها ، فلا تندم على عدم معرفة بل اندم على افساد ما تعرف وسارع الى تقويمه . اذكّرك بأن تجعل الثقافة توأما للمعرفة ، فان المعرفة دون ثقافة كالزهرة دون اريج ، جميلة وجذابة ولكنها من دون روح وتفتقر الى الحياة .
يا بني ، دع الحياة تعطيك ما لديها وتعلّم في صفوفها حساب الزمن وقيمة الايام ، اصغِ الى الكبير واستمع الى الصغير فما بينهما يكمن سر العبور نحو غدٍ اكثر وضوحا وانقى صورة ، واعلم جيدا اين تضع قدميك ، فلا ترتفع دون قيد ولا تغوص دون انتباه ، واعمل على ابقاء جبينك مقابل الشمس ويدك ظاهرة للجميع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق