الجمعة، 25 أكتوبر 2013

بق البحصة


يحكى ان راهبا متواضعا روحانيا يتقي الله ويسلك درب المخلص ، كان يجوب بين القرى والبلدات المنتشرة على سفوح الجبال يساعد اهلها ويصلح فيما بينهم ويهديهم الى عبادة الله والتقوى . ونظرا الى حسن سيرته واخلاصه وتفانيه بالعمل قامت الكنيسة بتكريسه راعيا لتلك المنطقة واصبح يعرف  ب" خوري الجبل " .

كانت الطرقات وعرة وقاسية ومخيفة ومرعبة ، وكان على الخوري ان يقطعها احيانا كثيرة بالليل وحيدا حين ينشغل ويأخذ منه العمل كل الوقت وكان لا بد من وجود شخص ما لمرافقته وتسليته بوحدته المتنقلة ، وهكذا وضعت الكنيسة بتصرفه رجلا شجاعا من ابناء تلك المنطقة ليكون المرافق والحارس والداعم والمسلي وطارد اليأس والجن والسأم .

لسوء حظ الخوري فقد كان مرافقه عبود سريع الغضب " زفر اللسان " لا يحسن الملافظ ولا يراعي الحضور ولا يعرف ادب السلوك طريقا الى لسانه ، يعني ما  "عندوش لا حضور ولا دستور " .  يشتم ويغضب وينرفز وما " بعد للعشرة " حتى اصبحت عاداته سيئة لدرجة النفور وعدم القبول .

لم يجد الخوري مفرا من تقبل ثقل مرافقه عبود ، ولكن نظرا لطيبة قلبه وخفة ظله وكرمه وشجاعته فقد وجد الخوري طريقة لسد ثغرات لسانه الاعوج والحيلولة دون لدغ مسامع الحضور، فقد طلب من صاحبه ومرافقه عبود ان يضع بحصة في فمه ولا ينزعها ما لم يطلب الخوري ذلك . قبِلَ عبود بالأمر لرغبته بالعمل ولمحبته بالخوري وهو الذي لا يريد ان يغضب اهل الدين ، وبذلك ضمن الخوري جوا آمنا بالحد الادنى من السكوت طالما تحكمُ الامرَ كلمة شرفٍ من عبود .

شاءت الاقدار ان مرّ الخوري على مقربة من قرية منسية بين التلال والجرود البعيدة تصارع البقاء بوجه الريح والبرد والثلج ، واذ به يسمع صراخ امرأة تحاول جاهدة لفت الانظار اليها تارة بالدعاء وتارة بالاستنجاد واخرى بالكلام غير المفهوم . طلب الخوري من عبود الاسراع بالسير والاقتراب لمعرفة ما يدور ، وبعد جلاء الامر وهدوء العجوز استطاعا معرفة ما تريد وهو القبض على تلك الدجاجة الشرسة الملعونة التي وقفت بوجه ام حنا واتعبتها وانهكت قواها .

تطوع الخوري لهذه المهمة خوفا من ان يقوم عبود بالركض خلف الدجاجة وتقع البحصة من فمه وتقع المصيبة معها " ويفلت الملق " معه ويعود الى سابق عهده من الشتم واللفظ المسيء . بدأ الخوري بالركض صعودا ونزولا خلف الدجاجة الى ان تقطعت انفاسه ونضب عرقه وفرقعت جوزته من العطش ، وتمزقت ثيابه من كثرة الوقعات بين الهشير والشوك والسياج ، الى ان التقط تلك الدجاجة وهي لا تزال تصيح وتقعقع وتضرب بجناحيها وتنبش الارض برجليها معلنة عدم الاستسلام لا للخوري ولا لام حنا . وضع ابونا الدجاجة بين رجلي ام حنا وقال لها هذه هي غريمتك وان كل شيء بخير وعلى ما يرام .

استغلت ام حنا وجود الخوري ومرافقه واخذت تطلب المزيد والمزيد من امور لا تخطر على بال حتى وصلت مواصيلها الى الحمار الذي تملكه مبدية اعجابها بحمار الخوري راغبة باستبداله ، وكل هذا وعبود على احر من الجمر بانتظار الفرصة الملائمة "لفش خلقو" بأم حنا وحنا وبأبي حنا ، ولكن الخوري كان يشير اليه دائما بالصبر والسكوت الى ان ضاق ذرعا بمطالب ام حنا وكاد ان ينفجر من تلك العجوز الشمطاء واحس بأنه سيخرج من ثوب الكهنة ليلبس ثوب عبود فصاح بمرافقه بأعلى الصوت : عبود .. بق البحصة ....

بق البحصة !!!

متى ايها اللبناني المسكين ستبق البحصة ؟

متى ايها المواطن ستبق البحصة بوجه من يهينك ويذلك ويشتمك الف مرة ومرة بين المرة والاخرى ؟

متى ستنتفض بوجه الذين صادروا ارادتك وحريتك وقرارك ؟

متى ستبق البحصة على من يأخذك ويجلبك ويطلعك وينزلك وكأنك دمية بل ان الدمية تشبهك ؟

اخي القارئ

يقولون لنا اننا على خلاف فيما بيننا واننا لا نستطيع حل مشاكلنا بأنفسنا واننا اصبحنا عبئا عقيما على المجتمع الاقليمي قبل ان نكون على المجتمع الدولي . يقولون ايضا ان لبنان اصبح سوق بيع وشراء حسب اسهم الانظمة المحيطة به او حسب التحالفات الداخلية المرتبطة بالخارج  ، ويقولون ويقولون الى آخر القصة ويعودون بنا الى ما كنا عليه  بمؤامرة من نسج من هو زعيم ورئيس وقائد وراعي ومصلح ، حتى بتنا لا نفرّق بين الكافر والمؤمن الا بالولاء الخارجي والانتماء القبلي والطائفي والمذهبي .

اخي القارئ

يختلفون .. فنختلف ، يتصالحون فنتصالح ، يتحالفون فنتحالف ، وينفصلون فننفصل ،مع بحصة او بدون بحصة  ، فمُنا مُقفل وبسمتنا حسب الحاجة وطاعتنا عمياء دائمة .

عجبا ! عجبا !

اين نحن وفي اي عصر نعيش ! نجتاح الجامعات ونحفظ الكتب ونحلل المقالات ندرس وندرّس بأعلى وأرقى الجامعات والكليّات ، وترانا نركع ونسجد امام الشاشات ونطأطأ الرأس ونصفق والويل اذا لم نصفق فنحن العملاء المأجورين ، نقبل ان اُمِرْنا ونرفض ان اُمِرنْا .

تبّا للعلم وللحرف ،وتبّا للعارفين وللمتعلمين ، تبّا للفقه وللفلسفة امام علم وفقه وفلسفة ومعرفة سياسييّنا وقادتنا وزعمائنا . تبّا للوطن امام الانتماء والولاء ، تبّا للحزب امام الطائفة وتبّا للطائفة امام المذهب وتبا للكل امام المصالح الشخصية والمنفعة الفردية . تبا للإنسان امام  الانسانية فقيمته قيمة ما يساوي جيبا او صوتا او رقما .

بق البحصة

اتريد ان يأتيك احد ليعصر ويعصر لعلك تبق ؟

ام انك تريد ان تُداس وتداس لتحس وتبق ؟

ام انك تريد ابقاء البحصة في الفم لتسد رمق الجوع ؟

فوالله ليس هناك جوع اشد من الجوع الى الكرامة والحرية ،

وليس هناك احتقار اشد من مصادرة القرار،

وليس هناك من بحصة الا وتسند خابية ،

"بق البحصة " قبل ان تصبح  "دبشة " يصعب بلعها ويستحيل بقها .

الاثنين، 7 أكتوبر 2013

اللحى ما بين العار والوقار


 

ومرة اخرى يقف شاهين حائرا ، لا يعرف ماذا يفعل ولا يدري ما هو مناسب له . وقف امام مرآة ينظر الى حاله متفقدا كل شبر من قامته فاحصا بدقة متناهية هندامه المميز لهذا اللقاء المميز .

احتار شاهين في امر بدأ يقلق الكثيرين من اصحاب المواعيد واللقاءات سواء كانت اجتماعية ام غرامية ام ذات صلة بالأعمال والصفقات وحتى اللقاءات السياسية منها ، هذا القلق الذي بدأ يكبر ويتنامى مع تفشي ظاهرة التطرف والانقسام الديني والمذهبي ومتناولا كافة شرائح المجتمع ، الا وهي ظاهرة " الالتحاء " .

عزيزي القارئ

كم كانت اللحية تبعث على الطمأنينة ، وكم كانت تبعث على راحة النفس وهناء اللقاء ،سمة اهل الدين والمؤمنين من كافة الاديان والمذاهب. كم كانت تفرض احترامها ووقارها وترسم طريق التعامل معها بحسن التصرف وادب الحوار والسلوك ، كم كانت السباقة الى يسرة الامور وحلحلة المشاكل والعقد ، بوضع الرضى والقبول والاخذ بالرأي الصائب والحكيم . كم كانت صديقي القارئ تبهج ناظرها وتُفرح من يقربها، كانت التقوى والنضوج والحكمة والاحترام.

صديقي العزيز

اين نحن الآن من هذه الظاهرة الجديدة القديمة ؟ اين نحن من القدرة على تصنيف اصحاب اللحى وتمييزهم ؟اين نحن من هذه الشعارات التي فاقت عدد الشعرات ؟ اين نحن ؟ ما بين الشك واليقين بان هذا مجرم بلحية ام مؤمن بلحية ؟ بين هذين السوادين يقع السواد المميت ، فأيهما نختار في لعبة الاقدار ؟

غضب شاهين من هذه المسألة المستعصية والتي اصبحت مزعجة الى حد الاحباط والقنوط ، فهو الذي ابى ان يحلق قبل يوم زفافه متمنيا ان ينعم الله عليه وعلى الوطن بالهدوء والسلام ، وكأن القدر بدأ في رحلة انتقام جديدة عبر احداث لا تمس بصلة الى الاحداث المعهودة امنيا ، احداث تعبث بالمصير بمجرد النظر الى اللباس او المظهر او تمييز لفظ الكلام ما بين لهجة او لكنة .

هذه لحية سوداء داكنة، طويلة تنساب حسب تقاسيم الوجه، انه شاب لا يتجاوز العشرين من العمر، ترى ما الذي استوجب هذا الشاب لأن يترك لحيته على هواها ؟ اهو القنوط ام اليأس ام الحرب ام الدين ام المذهب ام الشعار ام التوجه السياسي او العقائدي ام ام ام ،،، ام ان لا وقت لديه لهذه الكماليات ؟

كنا بالأمس القريب نعرف بمجرد النظر الى مثل هذا الشاب ونتأكد بأن مكروها قد اصابه او اصاب احد المقربين منه وهذا ما ندعوه بالحداد ، وكنا نتعاطف مع هذا الواقع المرير ، اما اليوم فنراه مع السلاح ونرجوه ان يعطف علينا وان يرفق بنا قبل ان ننطق من نحن ومن اين اتينا والى اين ذاهبون . هذه هي حال شوارعنا واحيائنا وسطوح منازلنا ومفارق طرقاتنا ، لحى تأمر واخرى تنفذ ، وهذه تكفّر وتلك تحلّل وثالثة تحرّم .

خشي شاهين من عبور الطريق وايقن ان حياده السياسي والديني والاجتماعي لن يرأف به عند هؤلئك "المتكملون" الافاضل ، فقرر ان يحلق ويتراجع عن نذره المقدس ولكنه سرعان ما ادرك انه ربما يتعرض للخطف مقابل فدية مالية على اساس انه من اصحاب الاموال والنعم نظرا لما هو عليه من هندام انيق في حال نعّم وتنعّم .

اخيرا قرر شاهين ان يتنكر ويقوم بدور "الاخرس" علّه يستطيع التنقل دون خوف من طرح الأسئلة : من انت ؟ ومن اين ؟ والى اين ؟ ، وهكذا نجحت خطته وعبَرَ دون اي ازعاج بمجرد انه لا يتكلم ولا ينطق ، ولا فرق ان كان بلحية ام لا .

اخي القارئ

هكذا نحن في لبنان اخي القارئ الكريم ، ننجح بالعيش شرط ان لا نفتح فاهنا الا للطعام ،، هذا ان وجد .