الجمعة، 22 فبراير 2013

حط بالخرج

يُحكى ان رجلين اجنبيين قدما الى لبنان لتمضية بعض الوقت لدى صديق لهما كانا قد تعرفا عليه عندما كان في بلادهما . وهكذا قررا المجيئ والتجوال في ربوع لبنان الجميل بعد ان اصرّ عليهما صاحبهما ليرد لهما بعضا من فضائلهما السابقة عليه .
كم كانت مفاجأتهم كبيرة عندما وجدا صاحبهما على درجة عالية من السمنة، جرّاء عدم اكتراثه بصحته وعافيته وكان يردد دائما ويقول " روح.. حط بالخرج " ، ردا على اي انتقاد او نصيحة .امتدت زيارتهما اسابيعا من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب ، مستمتعان بما لذّ وطاب من المأكولات اللبنانية الشهية ، ومع هذا كانا في قلق وحيرة من امر سمنة وشهية صاحبهما .شارفت الزيارة على نهايتها وازداد القلق على صاحبهما واخذا في شرح ما تؤول اليه هذه الاطعمة وما ستسبب له من ازمات ووعكات صحية مستقبلا ، ومع هذا كله فكان يجابهما بجوابه المعهود " روح حط بالخرج" . انها كلمة محيرة وليست في قاموس السياح ولا الزائرين ، ولدى الاستفسار عنها قال لهما : انها الكلمة اللبنانية المناسبة للإجابة على كل شيء . شو رأيك ب... ؟ روح حط بالخرج، الحياة وفرص العمل ؟ روح حط بالخرج، التعليم والطبابة ؟ روح حط بالخرج ، السياسة والساسة والحاضر والمستقبل ؟ روح حط بالخرج ،،،واذا كنتما لا تريدان الاهتمام بشيء ما وقطع الطريق على كل سائل او متحدث او مشارك فما عليكما الا القول : روح حط بالخرج ، وبالتالي فان الحياة السياسية والاجتماعية والامنية كلها وصولا الى الوطن ، كل الوطن : " روح حط بالخرج " ، لبنان كله " روح حط بالخرج " .
استمرت زيارة الاصحاب لأكثر من شهر ، وفي احدى المناسبات حيث دعيا الى حفلة زفاف انغمس الرجل في طيب المقبلات والمأكولات والحلويات والمشروبات وكل شيء يمت بصلة الى المعدة والأمعاء . شعر صاحبهما ببعض السوء وطلب الاستراحة والانفراد لبعض الوقت آملا بان يستعيد بعض نشاطه وعافيته ، فرافقاه الى البيت وتركاه بعد ان طمأنهما على انه بخير ثم غادرا ، ولكن حالته اشتدت مما استُدعيَ نقله الى المستشفى وما لبث ان فارق الحياة متأثرا بالتخمة الزائدة والشراهة وبعجز المعدة وانسداد المريء .
تأثرا كثيرا على فقدان صاحبهما واتخذا قرارا بالمشاركة في التشييع ، ووقفا حسب العادات اللبنانية مع اهل الفقيد لتقبل التعازي والناس تمر من امامهما مبدين الاسف وطالبين الرحمة لهذا الرجل . احتارا في كيفية الرد على تلك الكلمات غير المألوفة وتابعا وقوفهما بصمت مطبق دون النطق بحرف واحد الى ان تذكرا مقولة صاحبهما الراحل فبادرا الى الرد السريع على الناس " روح حط بالخرج " . فاذ بنا امام مشهد مضحك مبكي في آن ، نحن آسفون " روح حط بالخرج ... الله يرحمو " روح حط بالخرج ...العوض بسلامتكم "روح حط بالخرج " . وهكذا انتهى هذا الرجل الى الخرج ، وانقذ الخرج صاحبيه من اللوم والعتب .
عزيزي القارئ
نُحقن بشتى انواع الادوية الفاسدة ونموت على ابواب المستشفيات ، والساسة عندنا بأتم الصحة والعافية ولا تنقصهم سوى بضعة آلاف بل ملايين الدولارات .نخاف التجوال في الشوارع والذهاب الى اماكن العمل ان وجدت ،ويتملكنا الرعب ليل نهار من قطاع الطرق واللصوص تارة ، ومِن مَن يدّعون حماية الوطن تارة اخرى ، ومن حماة الاستراتيجية التي تحولت بأمر الهيّ الى استراتيجية هجومية دفاعا عن الوطن الضائع في الجهة الاخرى ، تحت شعار السلم الاهلي والنأي بالنفس عن الجار والدار وعدم المس بالشؤون الداخلية لكل قرية ومدينة ومذهب وملّة ، ونقول :" روح حط بالخرج ".
ضقنا ذرعا من عجقة السير على الطرقات وما يتبعها من قتل وخطف وسرقات ، ولكنها افضل من مشاهدة عجقة سير السياسيين بين اروقة المجلس متأبطين حقائب الدولة ومستقبل المواطن ، التي تفيض بفواتير مستحقة لجيوب الغيارى على المصلحة العامة ونقول : " روح حط بالخرج " .
لا ماء ولا كهرباء ولا امن ، ولا خبز ولا وقود ولا طبابة  ، ويأتي احدهم بكل ثقة واندفاع وقناعة ليحثنا ويدعونا الى تحرير الجولان والقدس ، ولننقذ الامة العربية من ربيعها الفاسد بعد ان ننتهي من تضميد جراح الشقيقة وشفاء نظامها ، لتعود بإذن الله وايران الى قيادة مسيرة التدمير والقتل والارهاب ، ونحن نصفق ونلطم الرأس والصدر ونقول : روح "حط بالخرج " .
لقد نفضنا عنا خرج الجمهورية الاولى " 43 " ، وطرحنا خرج اتفاق القاهرة ومنظمة التحرير ، وشلحنا خرج العروبة والقومية ومنابر الاشقاء والاصدقاء ، وافرغنا خرج الوصاية واستبدلناه بخرج التحرير وملأناه فخرا وعزة وكرامة حتى اصبح لباسا اسودا ثقيلا . حملنا خرج ثورة الارز فاعتذرت الارزة وانحنت ، لأنها لا تريد رقما يتاجر بها ، بل يدا تزرعها وامة تربيها، ولا زلنا نلبس خرجا وننزع آخر ونحاول ان نلائم اجسادنا على قياسات تأتينا من بُعد ، والخرج خرج والسوق مزدهرة والباعة كُثر .
اخي القارئ
ايها اللبناني ، هل تعتقد ان الخرج سيمتلئ يوما ما ؟ ولنفرض ذلك... سيأتي الزعيم بخرج آخر وآخر ويكدس فيه غنائمه طالما نحن وراءه ونحمل ذلك الخرج. آن الاوان ، نعم آن الاوان لان نضع الخرج جانبا ونقول لهم : كل واحد يحمل خرجه وعلى مسؤوليته ، فقط عند ذلك سنراهم عاجزين وعاجزين وسيسقطون الواحد تلو الاخر ، وسننتهي من مقولة حط بالخرج لنقول جميعا : حطوهم بالخرج وليركبوا حمار غوار وليتعفنوا في سجن جريمة هضم الدستور وبلع القانون ، وليرحم الله صاحبنا السمين ويسكنه جنّات الخرج ،، آمين . 

الخرج ، هو عبارة عن كيس من الكتان القوي مفتوح بالوسط وتتدلى منه جيبتان متقابلتان توضع بهما اشياء متنوعة ويوضع الخرج عادة على ضهر الحمار .

الثلاثاء، 5 فبراير 2013

الرسالة السابعة

                                    ساندي
لم تسنح لي الفرصة سابقا لأن اتعرف عليك اكثر وان اقترب منك اكثر، ولم يتسنى لي الغوص في بحر ذاتك لاكتشاف اعماقك وخبايا تكوينك ، ذلك لأننا اناس لا نستمتع بالفرص - حتى لا اقول لا نستغل الفرص- نعم لأننا اناس ننظر الى القشرة بإمعان اكثر من اهتمامنا بالمضمون والجوهر. ربما ما يعنينا هو ما الاقرب الينا وما تطاله ايدينا اكثر مما يلمسه فكرنا وادراكنا .نقف عند حدود المعرفة ولا نعرف التقدم الى الامام او فهم النتيجة ، نقف عند حدود الحرية لأننا نتقيد دائما بشروط الحرية التي فقدت قيمة النضال من اجلها . نقف عند حدود الجهل لأننا نجهل انه يجب علينا ان نتخطى حدوده ونفك قيوده . هكذا انتَ كما نراك دائما بعين واحدة وباتجاه واحد، انتَ صاحب المسلك المنفرد والرأي المنفرد والقرار المنفرد، وانا اليوم احاول ان اكون منفردا في رأي وفي موقفي  وفي علاقتي معكَ . احاول ان اكون في حدود حرية التعبير وفي جهل حدود المعرفة وبين اخطاء حب الاستطلاع . انت تعرف جيدا انه بإمكاني ان اقول ما اريد وان اطلق عليكَ ما اريد ، ولكنك لا تعرف انني لا اعرف ماذا اريد وما يمكن ان اصل اليه في محاولة المعرفة، ليس بالضرورة والحاجة بل بقناعة المبدأ وصلابة الموقف .
جميل بدون شك ايها الافق ، مبهر المنظر ساحر الوجه ، جذاب الى درجة الكفر . تخطيت كل الصفات وركبت فوق معاني الكلمات فأضعت حروفا وازلت نقاطا ، قاموسك غني وغني ،،، ولكن أتدرك باننا حفظناه اكثر منك؟
جلستْ ساندي قبالة الافق البعيد والبعيد جدا ، محدقة بذيك البريق الجذاب ، آملة ان يأتي اليوم الذي تتمكن فيه من الوصول اليه ولمسه والاحساس به ، املت ساندي وكلها ثقة ، لأنها ممتلئة نشاطا ومفعمة بالطموح والارادة ، وقررت ... واخذت على نفسها عهدا بالوصول الى ذلك الحلم ولو اصبح قدرا. انطلقت ساندي مغذية ذاك الاندفاع بكل ما اوتيت من عزم وعلم ، ومعرفة وجهد،،، سوف يتحقق ولو بعد حين، كل شيء في وقته واوانه ، وكل شيء مقدر له بشكل او بآخر .
 لمِنَ السّهل النظر الى ذلك الافق ولكن ليس من السهل الوصول اليه ، والاصعب من كل هذا هو المكوث فيه والتأقلم معه والانصهار في ذاته ليصبح من وجودك ، هذا الافق الذي كرّس الحرية والديمقراطية والحقوق الانسانية ، انه حلم كل ساندي اينما وجدت على هذه الارض .
طوال عقود وهذا الافق يعمل ليل نهار في تحسين صورته وتلميع جوانبه ، عمل  على غرس بعض طباعه وتقاليده واعرافه في امكنة حل فيها من غير دعوة او ترحيب . عمل كل ما في وسعه لإظهار لطفه وحسن نيته في المساعدة على التغيير والانتقال بهذه الارض وشعبها الى افق قريب من افقه ، تخبط احيانا واجتاز الصعاب احيانا اخرى ، واقنع الآملين والراغبين في التغيير بأنه سلم الصعود الوحيد الى الافق الام الذي لا يتغير . هكذا انطلقت سانديات عديدة من كل حدب وصوب مرحبة بهذا التعاون وهذا العطاء ، وتجمعت ساندي وراء ساندي للصعود على سلم التدرّج نحو العلا ، باتجاه الافق الفوقي المعصوم بخطوات ثابتة وبصوت واحد ، نعم للحرية نعم للديمقراطية ، نعم لحرية التعبير والفكر والمعتقد ، نعم للأفق الذي لا ينطفئ ولا يخبو ولا يضعف .
ابهر بريق ذاك الافق الناظرين اليه ونال اعجاب من لا يعجب لشيء، وسطع نوره ولامس اطراف الارض وبات متاحا لكل طامح وطامع وطالب وسائل ، واصبح هذا الافق في متناول من يريد. انغمست السانديات في بحر الاكتشاف العظيم والخطير والسهل المميت ، وكم تفاجأت من مطبات هذا القدر المصطنع ، وهوت .. وهوت ساندي وراء ساندي وابتعدت وغابت في غياهب الاحلام المحطمة وعادت ادراجها باكية .
بكت ساندي ودمعت ، وكرجت دموعها وامتلأت جداولا وفاضت انهارا وشلالات زاخرة بقدسية وعذوبة القطرات الحامية ، وهكذا تكونت وانطلقت ساندي كبيرة وكبيرة لإعادة بعض الاعتبار والاحترام والكبرياء ولتطرق باب الافق مذكرة بانه ظلمَ وظلمَ ، وقسى على نعومة الانامل وطيب الخواطر. نعم ، قدمت ساندي اعتذارها لعدم قدرتها على تغيير جسدها ليناسب لباسا جديدا ، وعلى عدم تناغم معتقداتها مع تقاليد واعراف جافة  ويابسة .انحنت واعتذرت على هذا المرور المُدمِّر والمُحطِّمَ ، وهكذا عاد حلم ساندي القديم ليسرح بعيدا مع اسماك التونة البريئة محاولا الابتعاد عن جوع القرش ونهمه وسطوته.
يا بني ، ان دمعتك على فقدان حلمك هي واحدة من دموع الكثيرين الذين تكسرت بهم القوارب على شواطئ صخرية غادرة ، ولتكن هذه التجربة مصدر وحي والهام وارادة لتنهض من جديد وتعبر الى بحر اكثر هدوءً واكثر تفهما واكثر امانا .
انه بحر والديك واخوتك ، انه بحر عائلتك التي تنتظرك بفارغ الصبر ، انه بحر خلاصك وانطلاقك من جديد الى محيط الامل الكبير