الاثنين، 14 يناير 2013

الشرق الديموكتاتوري

لم اتمالك نفسي من اخذ القلم نزولا عند رغبة المعرفة وحب الاستطلاع ، محاولا ان اشرح لنفسي كلمة ترددت اصداؤها في العالم اجمع ، وتغنى بها كل طالب حاجة من سلطة ومركز ونفوذ حتى المسكن والملبس ورغيف الخبز . هذه الكلمة التي اصبح سعرها يُصرف حسب قيمة الانسان من خلال بورصة انسانية واخلاقية وسياسية واجتماعية ، انها الديمقراطية ،،، عنوان لكل شيء من قمة الهرم الى اسفل القاعدة . نعم هذا العنوان الذي يُراق الدم لأجله وتُهدم البيوت وتشتت الامم ، يخلق حروبا ونزاعات ويبني دولا ومجتمعات تتفاوت فيها نسبة الحقيقة وصدق الممارسات ، وتتأرجح النتائج حسب الهوى السياسي . نعم انها الديمقراطية ، سلاح الضعفاء وعذر الاقوياء ، حجة الطامعين ، وحصن المسيطرين وملجأ الخاسرين .
اخي القارئ
ربما منذ القدم ومنذ زمن الفارابي ومقولة المدينة الفاضلة ، التي اشبعناها درسا وحفظا وشرحا ، منذ المدينة الفاضلة تلك ونحن في حيرة من امرنا للدخول في مخيلة الفارابي وفهم فلسفته او بالأحرى حلمه .ربما وجد الفارابي المدينة الفاضلة ولكنه نسي ان يرشدنا كيف نجد سكانا لهذه المدينة ، وكيف يمكننا ان نأخذ مجتمعا شبه عاديا بسيطا ، ونجعل منه مجتمعا فاضلا بحضارة حكيمة تقدس الحريات والمساواة ، والاكثر من ذلك ، منْ مخوّل ومنْ صاحبُ سلطة ليأخذ هذا المجتمع ويعيد هندسته وتشكيله ليناسب حلم الفارابي تماشيا مع مبادئ مدينته ؟ وهل من فاضلٍ قادر وحكيم في هذه الامة يستطيع قيادتها نحو الافضل ؟ وبالتالي نحو الديمقراطية ليتسنى للأفضل ان يكون في المكان الافضل ويُحاسَبْ ويكافأ في هدوء وشفافية ؟ ومن يضمنْ افساح المجال لإنسان عادي المعرفة والتفكير والطامح الى الديمقراطية لمحاولة اللحاق بركب الافضل عبر الوسائل الديمقراطية الفضلى ؟ رحم الله الفارابي واسكنه فسيح مدنه الفاضلة .
اخي القارئ
انا مواطن في هذا الشرق الاوسط الفاضل ، وانا احاول منذ شروق الشمس ان افهم واستوعب الديمقراطية ، واحاول ايضا وجاهدا ان اكون وسطيا في الثقافة الديمقراطية .ان التطرف الديمقراطي هو قمة الحماقة والسذاجة وبالتالي الانزلاق نحو ديكتاتورية الغلمان ،في حين اننا نلعن الديمقراطية احيانا لننعم ببعض منافع الديكتاتورية المتأصلة في هذا الشرق ، نجد انفسنا نميل الى الديكتاتورية لمنع تمتع بعض المستغلين والمنتفعين من الديمقراطية على حساب المجتمع وبالتالي الوطن  .منذ الازل والشمس تشرق على هذا الشرق ولم ولن تشرق عليه شمس الحرية والديمقراطية ابدا ، ومنذ القدم وهو المتوسط بين القارات والحضارات ، وهو الوسطي بين المناخات والتقلبات ، والوسطي بين الديانات والمذاهب والمعتقدات ، وسطي ، وسطي، ولكنه في اعلى درجات التطرف السياسي والاجتماعي والديني والثقافي .غاب لونه من زحمة الالوان فيه ، وغابت جغرافيته الجامعة لكثرة التفرقة فيه ايضا ، هذا هو الشرق الذي انعكس على ذاته انعكاس احرفه ليصبح "قرشا" يأكل ما فيه وما يأتيه .
عزيزي القارئ
اشعر بالكآبة والاحباط حين انظر الى هذه الامة التي لا تعرف الى اين تنتمي ، ولا تعرف العودة من حيث اتت . امة هُزِمتْ فصفقتْ ،اُمِرت فانحنتْ ، امة المنابر وحرب الحناجر ، ويل لها ،،،ويل لهذه الامة التي تنجِبُ انظمة دون قران ، وتدفنها دون مأتم ، ويل لهذه الامة التي تضرب بيد غيرها ، وتأكل ما تشحذ وتستجدي ، وتتباهى بصفعات خدها .
ان الشرق والديمقراطية قطبان متناقضان ينفر احدهما الآخر، واذا حدث احتكاك ما  تثور هنا وتتفجر هناك ، شرارات تؤدي الى حروب وثورات وتراق الدماء وتقطّع الاوصال ، وكل ذلك باسم الديمقراطية .اين نحن من اللعبة الديموكتاتورية السورية  ونسبة الانتخابات الصورية وال 99% من عبدة الرئيس والنظام ، ولنتأمل احداث مصر وما انتجته تلك اللعبة الديمقراطية الاخوانية والتي تتجه مسرعة الى ديموكتاتورية  في "الايمان والتوبة " بمباركة مبارك الذي تبوْرك[1] خلف قضبان مباركة ، الى ان يحين موعد التغيير والوقوف على اطلال ميدان التحرير . كذلك في تونس وليبيا واليمن واخيرا لبنان الذي طالما تغنى بالديمقراطية والحرية والمساواة فاين اصبحنا في مشروع الانسانية عامة وعلى الاقل حقوق الانسان وشرعة الحق بالعيش الكريم . ولنعرّج على اسرائيل واللعبة الديمقراطية فيها التي لا تشبه اية لعبة في العالم وكأن التاريخ وضع ديمقراطيتين لا ثالثة لهما اسرائيل ولبنان. ففي لبنان ، ما بين ديكتاتورية الطوائف والمذاهب والسلاح المشروع والحق للأقوى والبقاء للأقوى ،وديمقراطية الدولة والنظام ، نجد الاتجاه السائر نحو ديموكتاتورية البقاء للبقاء ، وفي اسرائيل ننعم بديمقراطية التنكر للدولة ومحاربة الدولة ونكران وجودها وحتى حقها في الوجود من فئة من شعبها ، وان غادرت البلاد تموت وتنتهي كالسمك حين يترك الماء ، كل ذلك تحت غطاء الديمقراطية والحرية في المعتقد والقول والممارسة .
اخي القارئ
 انا كمواطن شرق اوسطي افهم جيدا ديموكتاتورية لبنان وسورية والعراق وسائر عروش الاباطرة العرب ، ولكني لم افهم ولم استطع ان استوعب واهضم ديمقراطية اسرائيل التي تتيح المحظور وتسمح بالممنوع ، ولا على سبيل الحصر، لعل احدهم يفسر لي كيف لي كمواطن اسرائيلي احمل الجنسية الاسرائيلية وجواز السفر الإسرائيلي واعيش واربي اولادي واعلمهم وابني لهم مستقبلهم في هذه الدولة " دولتي اسرائيل " ، وانا لا اعترف بها كدولة بالمطلق بل احاربها وادعو للقضاء عليها ، ومع ذلك تتيح لي هذه الديمقراطية تثبيت وجودي لأزعزع وجودها ؟.
اللهم خذ بيدي وساعدني وقوي ادراكي علّي استطيع ان افهم هذه الديمقراطية لاحترمها اكثر وادعمها اكثر لتستمر وتزدهر وسط بحر الديموكتاتورية  في هذا الشرق .
اللهم ساعدنا على نشر هذا الفيروس الديمقراطي من حولنا ، ربما نستطيع حينئذ ان ننعم ببعض الهدوء الاجتماعي والسياسي ، وربما آن الاوان ان يتعلم كل من حولنا ان النظام هو لخدمة الشعب وان استمراره رهن بصدق العطاء والشفافية والمحاسبة وان لا احد فوق ارادة الامة .






[1] الذي يزرع من جديد

السبت، 5 يناير 2013

الرسالة السادسة

                                      بائع التين
رُسمت بريشة الهيّة ، تتأرجح بين التلال ، تعانق الهضاب وتأنس الجبال ، تحركها نسيمات وتوقظها قطرات ندى تدحرجت على خدود ازهار فلشت ارضها وحدائقها وغطت سقوفها . انها قرية هَنَأتْ بسكون الطبيعة ونامت على ارجوحة الليل الصامت ، انها القرية التي تنهض لتوقظ الديك ليصيح ويعلن بدء صفحة من صفحات الحياة .
ولد بائع التين وولدت معه حكاية كانون تتنقل بين السهرات الدافئة فكانت على كل شفة ومبسم . ولد وترعرع بين احراج الصنوبر وغابات السنديان والزيتون ، كبُرَ وكبرت معه دوالي الكروم لتحسِبَ له سنوات عمره بعد كل ضيافة تين او لحسة دبس او لقمة معقود .
شبّ على حب الطبيعة وشغف الحرية المطلقة ، تراه قرب الجداول وخلف الصخور ، وسط الحقول بين السنابل والشجر ، بائع التين هذا ، اسطورة الرجال وحلم الاطفال وقصة الاجيال .لم يرغب العلم ولا الحرف ، فكانت الطبيعة مدرسته ،  والعرزال صفه ، قلمه ناي قصب رقيق ومحفظته سلة وكم فيها من سطر وحرف عتيق . لم يقرأ ولم يكتب ولكنه يعرف صاحب كل شجرة وكل نبتة ويحسب المواسم ويعرف مقدار الخير فوق كل غصن وعلى كل جذع، لا يفقه الحساب بل يُحسب له الف حساب . انه كالضباب ينساب فوق الاشجار ويلامس العشب ، دائم الحضور سريع كالشاهين ، انه الفتى الاسمر احيانا والحالك احيانا اخرى ، ذاك الذي طُرِدَ من جنة الآلهة ليعود من آلهة الجنة .
حكايتي مع بائع التين حكاية قصيرة جدا لا تتجاوز بضع سنوات من الطفولة الصاخبة ، فكنا اتباع حارتين متجاورتين تشوبهما علاقة توتر دائمة على خلفية حق اللعب وترسيم حدود جماعات الاولاد المنتشرة بينهما ،فكانت رشقات كلامية احيانا ، وصراخ ورمايات حجارة وحصى احيانا اخرى ، في نزاع حول ملكية بيدر او جلِّ او ظل شجرة . هكذا تجاوزنا بعض المحن الجميلة وبعض قفزات العمر المضيئة وانتقلتُ انا الى بلدة اخرى ومن ثمّ انتهى بنا المطاف كل في مكان ولم نرَ بعضنا البعض منذ ذلك الحين . كنت اسمع عنه الكثير واتابع قصص نضاله في العيش الكريم ودأبه المتواصل على ادب الحياة في السلوك والمعاملة ، فكان يُضرب به المثل كلما دعت الحاجة الى شهادة في الحسن ، فعلا كنت اتابع كل تحركاته وانتابني الفضول لمعرفة المزيد عنه والتقرب اليه اكثر حبا بدراية المجهول وكشف المستور .
لا شك انه لقاء الغرباء بل لقاء المتناقضات ، لقاء عالمين مختلفين ، لقاء الجهل بالمعرفة والحق بالباطل ، لقاء الذكرى بالحاضر والامل بالخيبة . حزمت امري وهيأت نفسي للقاء انتظر منه الكثير لإحياء ما رُسم منذ وقت بعيد وبعيد جدا .
أأنا في حلم ام في حقيقة ، لا ادري كيف ولا اذكر شيئا سوى بضع كلمات تسربت عبر شفاهي ووجدت نفسي امام من كنت لا اصدق ابدا رؤيته في هذا المظهر ، ووجدت نفسي ملتمسا بعض العبارات المُنقذة ،،، أأنت بائع التين ؟
مددت يدي وصافحته طويلا ، ليس من باب الاحتفاء باللقاء بل من شدة الدهشة وعظمة المفاجأة ، وسرحت في واقع اقرب الى الخيال مستنجدا بأعجوبة تحملني بعيدا وبعيدا جدا . افقت على صوت اعادني الى حيت انا : نعم انا بائع التين البّي الطلبات واسهر على حسن التنفيذ ، اراعي الدقة في التسليم واحافظ على المواعيد ، احترم اذواق الناس وحاجتهم الى الجودة والنوعية الممتازة .
نظرت اليه متأملا فاحصا ، وكم ادهشتني تلك البذلة السوداء الرسمية وربطة العنق الملونة ، وذاك الحذاء الايطالي اللماع المتباهي بشرائطه التي تناسب ربطة العنق تلك ، تأملته واقفا امام سيارته السوداء المهيبة وتسألت : منذ متى يُنقل التين بسيارات طويلة ذات ستائر فاخرة وبحماية من اللصوص والغادرين ،ومنذ متى تؤخذ الطلبات عبر الهاتف المحمول والانترنيت ، ربما اصبحنا في عصر تكنولوجيا التين ونحن لا ندري ؟
اعدت طرح السؤال : أأنت بائع التين فعلا ؟
بصوت لا يخلو من العتب والسخرية والامتعاض قال: اسمع يا هذا ، يا صديق الطفولة وبعض ايام الدراسة الخجولة ، انّ كل ما في الامر هو انني تقدمت في العمل بعد ان ازدهر وراج ، وانت تعرف ان موسم التين لا ينتهي بل يتجدد دائما من الطازج الى اليابس وبالتالي الى المعقود .نعم كل ما الامر اني تابعت التقدم ورافقت التكنولوجيا ، وتفتحت عيناي على امور كانت شبه مُحرّمة او تحت شعار ممنوع الكلام والتعاطي ، فاستبدلتُ السلة بالسيارة ، والصراخ للبيع بآلة الهاتف الناعمة الهادئة ، ولمّا كانت تجارتي قد ارتقت الى مستويات اعلى واعلى ودخلت صالونات واروقة برّاقة، اضطررتُ الى تحسين مظهري واتّباع بعض اللياقات التقليدية . يا صديقي ، اني اقابل اناسا يحترمون ما يرون اكثر مما يعلمون ، ويدفعون طالما انهم لا يسمعون . هذا هو بائع التين الذي يقف امامك فلا تعجب للأمر وتقبله على انه عمل لا اكثر ولا اقل .
عاجلته قائلا : اعجب لأمر التين هذا وكم يدر من ارباح وارباح ، واستحلفك بالله ان تجاوبني اتبيع التين ام ورقه ؟
علت ابتسامة عريضة على مُحيّاه ورتّب على كتفي وقال : سأقول لك سرا شائعا بين الناس ، ان بضاعتي مرغوبة جدا والجميع يريدها . اتذكر صراعنا في الحارة حول احقية اللعب في البيدر او جل منصور ؟ انه الآن صراع من نوع آخر ولكن صدّق يا عزيزي ان من يجمع الجميع يفرّقُ الجميع ، وان ما يجمع ما بين الست سلمى والريس فؤاد هو نفسه الذي يجمع ما بين السيد علي والخوري سعد ، والعكس صحيح ، والكل متفق على ان هذا التين هو البلدي الاصيل والجيد ، صحيح ان التين مفيد للصحة ولكن ورقه مفيد للسمعة والسيرة الحسنة ، فهو "يستر العريان ويطمئن الجبان ويشجع على النسيان " .
صافحت بائع التين مودعا على امل ان لا القاه ثانية ، وغادرت بخيبة امل مريعة وبندم عارم . لم اتمالك نفسي من السماح لدمعة صغيرة بالتدحرج فوق خدي البارد واقفلت عائدا مثقلا بألف سؤال وعلامة استفهام .
يا بني،
حكايتي مع بائع التين هي واحدة من آلاف الحكايات والقصص التي تحصل كل يوم في مجتمع مزقته المظاهر الكاذبة والخادعة. انه مجتمع الصدق فيه عار والعار فضيلة، فيه الحلال مسخرة والحرام مفخرة،
يا بني
مهما ساءت الامور وعظمت المآسي ، وتقلبت بك سبل الحياة ، فابقَ على التين ولا تدع اوراقه تغريك ابدا .  تتساقط الاوراق وتتعرى الغصون ، ويبقى الجذع صامدا في وجه الريح والاعاصير، ليعود ويتجدد وتستقيم الامور ، وتدب البركة مرة اخرى .
يا بني
ليست الشجاعة بالساعد المفتول فقط ، ولا بكف العطاء والسخاء ، بل ان ثمة شجاعة اخرى في الادب الاجتماعي العام ومسالك الحياة السليمة والشريفة ،شجاعة الانسان في الانسانية ، وقيمة الاستقامة لدى الانسان .