السبت، 30 يونيو 2012

خالدون

الاول من تموز ، يوم وقف فيه الزمن ليلقي القدر كلمته ، ويذكّر من عنده الذاكرة لا تعي تاريخا ولا حدثا .
الاول من تموز، عيد تأسيس الكتيبة الثلاثون في الجيش الجنوبي عام 1983 ،والتي كان لي الفخر بان اكون احد جنودها الاوائل . وكان القرار بان يكون الاول من تموز من كل عام هو يوم الشهيد الجنوبي بعد افتتاح النصب التذكاري لشهداء الجيش الجنوبي على تلة 608 قرب مقر اللواء الشرقي في السابع من نيسان عام 2000 ، على ان تصدر مذكرة خدمة رسمية بذلك ولكنها لم تصدر لأسباب تقنية وبالتالي اخّر سفر قائد الجيش صدورها وانتهت بانسحاب الجيش الاسرائيلي وحل الجيش الجنوبي ، مع العلم بان الافتتاح تم قبل الموعد المتفق عليه بسبب نية اللواء لحد المغادرة الى الخارج .والجدير بالذكر ان الاحتفال الاول كان قد اقيم في بلدة القليعة في الاول من تموز عام 1994 واقتصرت بعدها الاحتفالات ضمن الافواج والقطع بناء على طلبها. ولذلك فأنّ الاول من تموز هو " يوم الشهيد الجنوبي " الذي لم يتسنى لنا الاحتفال فيه ثانية ، ولكنه سيبقى  يوم الشهيد الجنوبي الى الابد .
اعزائي
اي حياة اكثر فخرا من تلك التي يعيشها الانسان وسط اسماء عبرت التاريخ لتصنع تاريخا ، وها نحن اليوم نعيش هذا الفخرَ والاعتزاز بهؤلاء الذين رسموا لنا بدمائهم اسُس البقاء والاستمرار .
اكتب اليوم اجلالا واحتراما لأحيي ذكرى شهدائنا الابرار الذين سقطوا دفاعا عن ما آمنا به وارتضيناه قدرا . انحني اليوم امام حقيقة لا يلغيها تاريخ ولا تحدها حدود ، فالذكرى مرآة الاجيال وحافز البقاء .
اخوتي رفاق الدرب الطويل ، رفاق السلاح الشرفاء تعجز الكلمات عن اعطاء اصحاب الحق حقهم وعن ايفاء من قدم اغلى ما اُعطيَ له في هذه الحياة الا وهي الحياة بعينها . آمنا بدرب الجلجلة والهجرة لنصبح مثلا في التضحية والصبر والعطاء ، آمنا بما نحب ونقدس ، آمنا بلبنان الوطن فأهديناه اجسادنا كفنا وارواحنا مشعل نور يهدي ابناءه في ظلمة الاقدار. اكتب هنا ، وتعود بي الذاكرة الى سبعمائة واثنين وسبعين شهيدا سقطوا دفاعا عن حلم كل لبناني شريف آمن بوطن الرسالة والحرية والكيان ، لقد كُتب علينا النضال ورُسمت لنا درب الآلام ما بين الحرب والهجرة والتهجير ليبقى لنا شرف الانتماء وفخر الاصول .
احبائي
علمتنا القيم اللبنانية  ان نحترم كلَّ نصب اينما كان ولأي كان ، فجاء جهلُ ابا جهلٍ وهدم ما بنيناه .
علمتنا قيَمَنا ان لا طائفة الا لبنان ولا مذهب الا لبنان ، فنرى اليوم لبنان المذاهب والطوائف والاحقاد .
علمتنا ان الشهادة شرف ، فاذ بنا نرى القتل شرفا .
لقد تعودنا على شقائق النعمان الاصيلة تنمو على سفوح جبالنا وسهولنا ، فكيف لنا ان نرضى بشقائق مستوردة ولأهداف مستعارة .
هكذا كان الجيش ومن اجل ذلك استشهد شبابنا وشاباتنا من اجل الارض والعرض والكرامة من اجل بناء دولة السلام والديمقراطية والحرية .
 لبنان ،  لو أخطأنا بحقك فنحن نعتذر منك ، ولو أخطأتَ بحقنا فإننا نعتذرُ عنك  ، فوا لله ما ادخرنا جهدا لنبقيك حرا ، كريما ، سليما ، معافى ، والله ما بخلنا بدماء لترويك ، ولا بدموع لأجلك ،ما تردّدنا يوما بإخلاصنا لك ، وصدق محبتا ووطنيتنا ، فهيهات منا ... من الذين يتشدقون بالوطنية ويحرقون العَلمَ والأرز والرمز ، ويدينون بالولاء لدين أو لحزب أو لمذهب ويدفنون الوطن تحت أقدام من ليس لهم أقدام في وطنهم ، فوا لله لم نرفع علما غير علمنا ولم ننشد نشيدا إلا النشيد الوطني ، ولم نقبل بمؤسسات إلا اللبنانية واللبنانية فقط ....
 اخوتي الاحباء
هكذا كان الجيش الجنوبي ، اقصر من حلم واكبر من حقيقة ، رسالة وعقد بين جميع الطوائف والمذاهب حضن الجميع من الشمال والجبل ومن البقاع ومن بيروت كلهم اتوا للانضمام الى رحلة الحرية والكرامة والسلام ، فكان الامل للعبور الى الديمقراطية الصحيحة ولكنه انتهى من اجل اثبات الديمقراطية في مكان وترسيخ العقائدية في مكان آخر ، وهكذا استمرت اللعبة وبقي الصراعُ المحرّكَ الوحيد لشعوبٍ لم تعرف السلام يوما ، واستشهد رفاقنا على امل هذا السلام .
 نحن الوحيدون الاوائل في هذا الشرق الذين آمنوا بالسلام هدفا وحسن الجوار طريقا ، فاندفعنا الى مصافحة يد جارنا الاسرائيلي وركوب حصان طروادة لنكون السباقين في قيادة سفينة الخلاص الى بر الامان ، فدفعنا ثمن حبنا للعيش الحر الكريم ، وامتزجت دماء المذاهب والطوائف لتخلق دينا جديدا تخطى المألوف في الانجيل والتوراة والقرآن ليصبح دين الحياة وما الحياة الا حق من صاحبها وما صاحبها الا الحق بعينه .
شكرا لك يا لبنان على كل شيء، وستبقى شرفنا، وكرامتنا، ومسقط رأسنا.
شكرا لكم أيها الجنوبيون لتحملكم  كل تلك الصعاب والمحن ، شكرا لكم على كل ما قدمتموه من تضحيات وصبر وجلد .
شكرا لكم جنود الجيش الجنوبي وضباطه ،على خدمتكم المتفانية في سبيل ما آمنتم به وتفتخرون فيه .
شكرا لكم شهداؤنا ، ويعجز الشكر عن إيفائكم حقكم ، لقد قدمتم أغلى ما عندكم ، فلا ندم على ذلك فسيأتي يوم تتضح فيه الحقائق لتحيوا من جديد في قلوب ومشاعر اللبنانيين جميعا ولتعودوا معززين مكرمين شهداء الوطن كل الوطن ، حتى يوم القيامة .
شكرا لكم جرحانا ومشوهي الحرب على كل ما بذلتموه وسعيتم من اجله.
شكرا لكم شهداء وجرحى ومعاقي الحرب من المدنيين في المنطقة من رجال ونساء وأطفال وها انتم تنضمون إلى قافلة الكرامة اللبنانية.
ان وصية شهدائنا باقية ومستمرة وهي الايمان بلبنان الحق والعدالة ، لبنان الواسع المتسع للجميع ، لبنان الشراكة والمساواة ، لبنان المنتصر الوحيد الشامخ فوق الجميع .
 اخوتي اللبنانيين
احكوا قصصكم لأطفالكم وأولادكم وللأجيال من بعدكم ولا تدعوا قصة الجنوب ولا ملحمة الجنوب تموت مع الزمن لأنكم كنتم على حق وما زلتم على هذا الحق وسيبقى مُلكا لكم ووصمة عار على دولتكم حتى يوم القيامة.
هذه هي رسالة الشهيد الجنوبي علموا اولادكم المحبة والسلام علموهم حب الوطن وحسن الجوار، علموهم الديمقراطية واحترام حقوق الغير ، علموهم التضامن والتواصل والتكاتف وقولوا لهم : لا تنسوا ابدا انكم من لبنان ، رحم الله شهداءنا واعاد عزة لبنان .

الجمعة، 15 يونيو 2012

ديمقراطية اسرائيل بين الولاء والانتماء

 
التقيت بأحد الاصدقاء في  مناسبة عامة ، وبادر فورا الى تهنئتي على بعض الكتابات ووضع الاصبع على الجرح كما يقولون ،ولكنه سرعان ما اشتكى قائلا : لماذا لا تكتب يا اخي عن السياسة الاسرائيلية ؟ اليس ما يوجد في هذه الدولة ما يستوجب الكتابة عنه ؟
اجبته : نعم يوجد الكثير لأكتب عنه ، ولكنني لا اجد سببا سياسيا للكتابة وبمعنى آخر لا توجد سياسة في اسرائيل بالمعنى الذي تعرفه ويعرفه العالم من حولنا .استغرب كلامي وقال : لا سياسة في اسرائيل ؟ ماذا يوجد اذا ؟ قلت يا صديقي في هذه الدولة توجد الاهداف على راس القائمة ولهذه الاهداف سياسة لتحقيقها ، على عكس دول الشرق الاوسط التي وضعت السياسة هدفا بحد ذاتها اي العمل السياسي من اجل السياسة .
قال لي : بالله عليك اتطلع الى قراءة ما لم يقرأه الآخرون في السياسة الاسرائيلية ووعدته بذلك في اقرب فرصة .
عزيزي القارئ
كتبتُ في مقالة سابقة عن الديمقراطية التوافقية في لبنان وما تتمتع به هذه الديمقراطية الفريدة من نوعها، ولكننا نجد ان في اسرائيل أيضا ديمقراطية توافقية ولكن من نوع آخر ، تحاول السلطات جاهدة ان تجعلها مرادفة للديمقراطية الحقيقية المتبعة لدى معظم الدول الاوروبية ، وهي " ديمقراطية الاقليات " وهذا يعني ان كل اقلية تتمتع بديمقراطية تناسب تطلعاتها الاجتماعية والسياسية والدينية ، ويمكنني القول ان هذه الديمقراطية تشبه الى حد بعيد الاستقلال الذاتي داخل الكيان الطائفي المصغر ، دون الخروج الى ملامسة خصوصيات الطوائف الاخرى او الاقليات الموالية للخط الاستراتيجي للدولة ( دروز- وبدو- وشركس ) او غير الموالية ( مسلمين ومسيحيين ) .
مما لا شك فيه ان وجود اسرائيل في منطقة تتحكم فيها انظمة ديكتاتورية وقومية وعقائدية (وقريبا ربما دينية )، جعل هذه الدولة ( اسرائيل )تتمسك بالديمقراطية بقوة وحزم رغم كل الصعوبات التي تواجهها ، من حروب مع العرب ومن تناقض بالمواقف الاستراتيجية والقومية في الداخل ومسألة الولاء للدولة او الولاء للقومية . بالرغم من كل هذا اثبتت اسرائيل ان ديمقراطيتها انتجت قوة عسكرية قوية جدا ، وبيئة اجتماعية وتربوية وثقافية واقتصادية ارضت كل الفرقاء رغم ابتعادهم عن كل اندماج حقيقي في المجتمع الاسرائيلي بشكل عام .
ان تمسك اسرائيل بالديمقراطية جاء لثلاثة اهداف رئيسية :
الاول : كسب التأييد والتعاطف من المجتمع الدولي الديمقراطي وخاصة الاميركي والاوروبي على ان هذه الديمقراطية هي الوحيدة والفعالة في الشرق الاوسط .
ثانيا :جعل اسرائيل علامة فارقة في الشرق الاوسط المليء بالأنظمة الديكتاتورية والوراثية .
ثالثا : كسب ثقة اليهود من جميع اقطار العالم وحثهم على القدوم والسكن في اسرائيل على اساس انها دولة ديمقراطية تصون الحريات والخصوصيات .
ازاء هذه الاهداف الثلاث كانت  سياسة الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة ولا تزال تنكب على تثبيت هذه الاهداف والعمل على دمج الجميع في خط واحد وهو الولاء الكامل للديمقراطية لا للدولة ، بحيث ان الولاء للدولة يتناقض مع مواقف العرب فيها ، مع العلم بان الولاء للديمقراطية لا يقل اهمية عن الولاء للدولة . لذلك فقد ميزت السلطات ما بين الولاء المطلق للديمقراطية  والولاء الجزئي للدولة ، فنتجت عنها ديمقراطية الاقليات التي تعطي كل ذي حق حقه مع الاحتفاظ بالحق العام للدولة وهو الحق الاستراتيجي لها .
عزيزي القارئ
في هذا الجو المزدحم بالهدوء وحرية التعبير نجد الصراع المرير بين اربعة فئات قسمت الحياة السياسية الاسرائيلية :
اولا : فئة الانتماء والولاء ، وتتمثل باليهود والدروز
ثانيا :فئة الولاء ،لا الانتماء وهي تتمثل بالبدو والشركس وببعض الاقليات الاثنية كالأحمدية والاقباط والبهائيين .
ثالثا: فئة الانتماء لا الولاء، وهي تتمثل بالعرب ( مسيحيين ومسلمين )
رابعا : فئة لا ولاء ولا انتماء ، وهي مزيج من الطوائف كافة في الدولة يهودا وعربا وهي اقلية لا تعترف بالدولة لا كيانا ولا شرعية ، مستفيدة من حرية التعبير وحماية القانون  وديمقراطية الاقليات .
اذا هذه الفئات الاربعة تعيش وتمارس حقوقها تحت سقف القانون الذي تغطيه الديمقراطية وترعاه وتحفظه . لا شك ان الديمقراطية الاسرائيلية قد اثبتت مرة اخرى ان الملعب يتسع للجميع والكل مدعو الى ممارسة حقه وواجبه في لعبة تنصف وتراعي لاعبيها .
اخي القارئ
بنظرة سريعة حول السياسة الاسرائيلية والمواقف الرسمية نجد ان مواقف الحكومات المتعاقبة كلها جاءت كردة فعل على مواقف الدول الاخرى ، اي ان اسرائيل لم تضع خطا سياسيا واضحا بتعاطيها مع الازمة الرئيسية وهي ازمة البقاء والاستمرار وسط التهديد لها بالزوال تارة وبالتحجيم تارة اخرى ، بل كانت ولا تزال تتعاطى مع كل معطى وكل مستجد ضمن الخطوط الخاصة لهذا الناتج او الموقف . نعم لقد نجحت منذ مؤتمر مدريد بالفصل ما بين التضامن العربي بالانفراد مع كل طرف حسب الخصوصية والضرورة والنتيجة ،وقد نجحت بذلك وخرجت باتفاقية سلام مع مصر والاردن وبمواقف اخرى غير معلنة من الهدوء وعدم الاعتداء مع سائر الاقطار العربية وخاصة الخليجية منها .
رغم بعض العيوب في النهج الديمقراطي الاسرائيلي ، ورغم بعض الخروقات العامة للديمقراطية بالقوانين والقرارات البرلمانية ، حبذا لو تعلم العرب من هذه الظاهرة ولو قليلا بإدخال بعض فتات الديمقراطية الى مائدة الانظمة العربية ، حبذا وبعد هذا الربيع العربي ان نرى قادة عربا يمتصون رحيق الديمقراطية ولا يهم من اية زهرة او حديقة ، علّهم يخرجون عسلا ولو مرّا يفي بعض شروط الحياة الكريمة للجماهير المتعطشة للحرية والكرامة .
اخي القارئ
ان الدول التي تسهر على نفسها وتحافظ على كيانها هي الدول التي تمارس سياسة الاهداف الواضحة ، وبتكتيك دقيق للوصول الى الهدف الاستراتيجي المنشود .فاذا كان الهدف عسكريا ، ستمارس سياسة تقوية الجيش وكافة الاجهزة الامنية ، واذا كان الهدف اقتصاديا ستكون حتما سياسة اقتصادية وهكذا تخضع السياسة لشروط الهدف ، في حين ان معظم الدول العربية تضع السياسة هدفا لها واللعبة السياسية هي لعبة الاحتفاظ بالمناصب والامتيازات .
لا اقول ان لا عيبا في سياسة اسرائيل ولا اقول انها الديمقراطية الكاملة ولكنها تبقى رغم كل شيء افضل من انظمة مهترئة ومن سياسات كاذبة وهدامة لا ولاء فيها ولا انتماء الا للحاكم فقط .