الخميس، 22 ديسمبر 2011

الآتي اعظم

صدف اني كنت مدعوا الى مأدبة عشاء اقيمت على شرف احد الاصدقاء ، ولسوء الحظ وصلت متأخرا بعض الوقت . اتخذت موقعي انا وصديقي المتأخر ايضا الذي انهكه الجوع ودفعه للبدء بتناول ما وصلت اليه يداه . همست بإذنه وقلت له تمهل ان الآتي اعظم ، فقال نعم والحمد لله اني مرتاح وليحصل ما يحصل ، وكأنه فهم الامر على انه صلاة قبل الاكل او شيئا دينيا وتابع تناول طعامه فرحا ومسرورا بنوعية الطعام وتنوعه. قلت له للمرة الثانية ؛ انتظر ان الجاي اعظم ولكنه لم يعرني انتباها وتابع الى ان احس بالشبع قليلا وبالتخمة بعد تناوله مشروبا وبعد اخذه الطعام بسرعة قياسية . وكم كانت مفاجأة صديقي هذا صاعقة عندما وصلت طلائع المشاوي من اللحم والدجاج وخاصة كبد الاوز المشوي فصرخ غاضبا : هلّق جبت اللحم بعد ما شبعت ؟ والتفت ناحيتي معاتبا : لماذا لم تقل لي ؟ فقلت له : لقد حاولت ان اذكرك بان الطعام الشهي على الطريق وان الجاي اعظم ولكنك لم تلتفت اليّ وتابعت اكلك ، هزّ برأسه وقال :على كل حال ان هذا الطعام الآتي لا يناسب معدتي فخير فعلت بتناولي ما تيسر لي . وهكذا لقد تناولت بمفردي وبهدوء ذاك الطعام الشهي وصديقي يندب حظه المتعثر ويردد " صحيح ان الجاي اعظم "
عزيزي القاريء
بدأ الربيع العربي وانتقل من بلد الى آخر بسرعة قياسية لم يتصورها مراقب ولا محلل ، وظن البعض على انه قاب قوسين من نهايته وان ثماره بات قطافها لمن سبق .اكد الجميع ان هذا الحدث سيغير مجرى التاريخ في الشرق الاوسط ، وان مروره بالتداعيات التي رأيناها لهو دليل خير وبركة على ان الامور قد مرت باقل خسائر ممكنة وباقل اثمان دفعتها شعوب هذا الربيع ، وباتت الاحتفالات تغلب على الآمال ، والفرحة بهذا الانجاز تجاوزت الاهداف وراح كل فريق يطبل ويزمر مدعيا النصر والمسؤولية الاولى بهذا الحدث ، ولكن اقول لا ، تمهلوا " ان الجاي اعظم "
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية والشعوب العربية تتطلع الى التحرر وتقرير المصير ، وقد لاقت فكرة التحرر العربي قبولا واقبالا شديدين لدى الشباب الذي ذاق ويلات السيطرة والاحتلال تحت راية الانتداب ، وانتفض هذا المارد الذي افاق على طعم الحرية وهلل وفرح لدحر الانتداب دون درايته بان " الجاي اعظم " . نفضت هذه الشعوب يدها من الاستعمار وبدأت بذور التحرر تتفتح رويدا رويدا وما ان لامست ضمير الامة حتى ابتلت هذه الامة بمصيبة جديدة وهي قضية فلسطين . هذه القضية التي وضعت الشعوب العربية من جديد في قفص الاستعمار الجديد ولكنه استعمار داخلي ، استعمار الانظمة العقائدية والمستبدة والمستعبدة لكل هذه الشعوب ، وعادت فكرة التحرر العربي والاتجاه نحو الديمقراطية مجرد حلم بل تعداه ليصبح خيانة اذ ان التحرر يخدم مصلحة العدو وان عظمة الازمة الراهنة تستوجب الوقوف والتأمل بان " الجاي اعظم " .
بدأت الثورات العربية ضد الانظمة الرجعية المستسلمة واستولى قادة شباب على الحكم في عدة دول عربية وكلهم رواد عهد جديد من استرجاع الكرامة والعزة وبدأت معهم مقارعة اسرائيل من اجل القضية الفلسطينية بالتزامن مع معاقبة الجماهير وحشرها وحصرها وحصارها . داهمت بعض الانظمة انظمة اخرى بحركات تصحيحية وانقلابات عسكرية اوصلت عقائديين ورجالا متعطشين للسلطة ، سلطة الفرد الواحد قبل الحزب الواحد ، وسلطة العائلة قبل العقيدة ، وهكذا شهد الشعب العربي من المحيط الى الخليج تعبئة وتحضيرا وتحذيرا وقلقا من عدوين اثنين في المنطقة ، عدو خارجي وهو اسرائيل واميركا والمحور الغربي كله ، وعدو داخلي شرس يطمع الى السلطة الشرعية الدينية على حساب الديمقراطية كما كانت تزعم تلك الانظمة وهو " الإخوان المسلمون " . سخّر هذا النظام الجديد مقدرات الشعوب وصادر ارزاقهم ومالهم وبالتالي ارواحهم في سبيل القضية الكبرى "فلسطين" ثم ما لبثت ان اصبحت قضيته هو باستعادة اراضيه المحتلة متخذا من هذه القضية المستجدة ذريعة لمصادرة ارادة الشعوب وتطلعها الى التغيير ومحددا لهم العدو الجديد بعد ان اقنع الجماهير بالأبواق الرنانة بخطورة " الاخوان المسلمين " واستمرت الحالة اعواما طويلة والحكام مسيطرون ومستمرون بالضحك على الشعوب وبتخويفهم من الاخوان اولا ومن اسرائيل ثانيا .
نعم لقد سقطت قصة الخوف من اسرائيل لدى الشعوب العربية وذلك بعد ان اقدمت غالبية هذه الانظمة  على ابرام معاهدات سلام او عدم اعتداء مع اسرائيل او بإبقاء الحال كما هو  بلا حرب وبلا سلم  او بلا حرب الى اجل غير مسمى فكان سلام الحكومات وحذر الشعوب  وبدأ اهم سبب لبقاء هذه الانظمة بالزوال وهو العداء لإسرائيل ، والتفتت هذه الشعوب الى حالها ووضعها الداخلي المهترئ  سياسيا واقتصاديا واجتماعيا والاهم من كل ذلك الوضع الاستراتيجي للبقاء كدول ذات سيادة ومنفعة ، وبدأت الثورات بشرارة تلو الاخرى  من تونس الى مصر الى اليمن وليبيا وسوريا ، كلها تنشد التغيير الى الافضل والى الاحسن وبكلمة اخرى لم يعد يستطيع الحاكم العربي تخويف الشعب بإسرائيل ولم يعد ممكنا اللعب على الضمير العربي ولا على التضامن العربي ولا على صيانة الانظمة القائمة من مد التيار الاسلامي بمختلف تشعباته الا من خلال القمع والضرب والاستبداد .
هللّ اللبنانيون عام 2000 بانتصار حزب الله بانسحاب اسرائيل من الجنوب دون قيد او شرط ، وانشدوا نشيد النصر غير مبالين بالحناجر التي اخرجت وانتجت هذا اللحن فكان كفيلا بمحو آثار هزائم 48 و67 و73 و82 وان العام 2000 هو عام " نوبل العالم الاسلامي " الذي سرعان ما اصبح (وابل على الشعب اللبناني )، ولكنهم نسوا ان " الجاي اعظم " .
 لقد بدأ الشعب اللبناني بادراك " الجاي اعظم " بعد عام 2000 بسيطرة حزب الله واعوانه على الساحة الامنية اللبنانية وبسيطرة سوريا على مفاصل السياسة فيه وتوجت هذه السيطرة بحرب عام 2006 ، حرب استرداد الاسرى او حرب استرداد مزارع شبعا او الغجر او حرب التماس الايراني مع اسرائيل ، فلا احد يدري السبب الحقيقي لهذه الحرب المدمرة ولكنها كانت الصوت المدوي الذي ايقظ اسرائيل من جهة وايقظ الشعب اللبناني من جهة ثانية ووقف كل منهما متأملا وواثقا بان " الجاي اعظم " من كل هذا .الاتي اعظم من اسرائيل في المرة القادمة بدون شك ، وارجو من الله ان لا نمر بتجربة  هذا " الآتي اعظم " ، والآتي اعظم بالنسبة للبنانيين هو بترسيخ وتثبيت حكم حزب الله وسيطرته على عقول بعض اللبنانيين الجهلة الذين وجدوا في الحرب متعة وفي الانتصار محطة دائمة وقد وصل الاعظم في السابع من ايار واسقط الحريري والحبل على الجرار .وانتشر وتشعب "الآتي اعظم " .
لا تقدر فرحة العراقيين بالخروج الاميركي من العراق ، فرحة المؤيدين لإيران وخوف البعثيين اي ما تبقى من نظام البعث المنحل ، وبكلمة اوضح من العرب السنة العراقيين الذين لبسوا ثوب القاعدة مرغمين للدفاع عن النظام ولمحاولة اخذ محط رجل في النظام الجديد ، ولكن بعد الانسحاب الاميركي سيرغمون بدون شك للدفاع عن انفسهم من ثأر الشيعة الذين لم ينسوا استبداد حزب البعث اي حزب السنّة في العراق . هذا المشهد الذي يضم نقيضه في آن ؛ عدو لمن انقذه من عدو، وصديق لمن كان دائما عدو . والآتي اعظم ،،،
عزيزي القاريء
كلٌ يشرح عظمة الآتي فيما يخصه من هذا الآتي تحت شعار " المؤامرة ". نعم ان الربيع العربي مؤامرة لمن لا يرغب بتحرر الشعوب واعلاء كلمتها ، مؤامرة على الحكام ومؤامرة على النظام ومؤامرة على التوريث والتمديد ،  ناهيك عن تهمة التآمر ايضا لكل من يركب ركب الغرب ، ولكل من لا يركب ركب العداء لإسرائيل، أيضا لكل من لا يرى في ايران او كوريا اما للديمقراطية والحرية وحقوق الانسان . ايضا وأيضا مؤامرات التدخل في الربيع العربي سواء اكان عن حسن نية ام عن سوء نية ، جماهير غاضبة من الانظمة السابقة وجماهير غاضبة من انتهاء الثورة بالشكل الذي لا ترغب فيه وأخري غاضبة لان هذا تدخل وذاك لا ولا يدرون ما صنعت اياديهم ولا ان الآتي اعظم من مشاريع الجيران الغيارى .لذلك تسارع دول الجوار لأخذ الربيع العربي  حسب ما تراه مناسبا لها  بالدرجة الاولى وفيما يخص توجهاتها واستراتيجيتها لان التكتيك الآن لا ينفع بل الواجب ترسيخ سياسة ثابتة ونافذة وثاقبة تستطيع استدراج اكبر عدد ممكن من المؤيدين لهذا المشروع او ذاك او القبول بفكرة المؤامرة لتغذية مشروع على آخر  دون الشروع في قراءته او فهمه وتحليله او تفسيره .
ثلاثة مشاريع تنتظر ابتلاع الربيع العربي؛
الاول : وهو المشروع العربي الحاضر اي الثورات العربية المتلاحقة ونشوة الانتصار للجماهير التي عانت طيلة عقود طويلة من الاضطهاد والقمع ، فبعد هذا الانتصار الذي يشبه الحلم في سرعة تحقيقه نرى ان الجماهير العربية ربما قد اعتادت البقاء في الشارع لكل صغيرة وكبيرة وان لغة الحوار اصبحت بالحجر والمتراس وقطع الطرقات والمطالبة بشيء ثم الصراخ لإلغائه ، وهذا هو المشروع الاخطر للنظام العربي الجديد الذي لم يبصر النور بعد ، الا وبدأ الخلاف بين اهل البيت الواحد على اقتسام الجبنة اذا صح التعبير. اما اذا عدنا الى المشروع العربي كمشروع عام يقارب مشاكل المنطقة بشكل عام من القضية الفلسطينية الى مشكلة البرنامج النووي الايراني الى مشاكل الانسحاب الاميركي من العراق والثورة السورية ، فإننا نرى ان العرب لا يملكون اي مشروع حقيقي لانهم فعلا لا يملكون رؤية واضحة في هذا الوقت الا مشروع المبادرة العربية للسلام التي للأسف فات الوقت بشأنها نظرا لغياب انظمة عديدة كانت قد ساهمت في صنعها ، مع العلم بان المبادرة الخليجية لحل الموضوع اليمني لا تزال قيد التنفيذ وهي منفصلة عن اي علاقة عربية شاملة ذلك انها وضعت لإبعاد شبح الثورات عن دول الخليج قبل كل شيء ، في حين يتخبط العرب بشأن مبادرتهم في سوريا وتذكرني هذه المبادرة بتلك التي كانت تخص لبنان في السبعينات حول قوات الردع العربية. وسط هذا التشتت في الخيارات والشعارات والفوضى في لملمة بقايا الانظمة السابقة ووضعها في اطار الاستفادة منها مستقبلا نرى ان المشروع الاسلامي بشقيه المعتدل والمتطرف اي "الاخوان والسلفيون" ، نرى ان مشروعهم بدأ بسباق قوي ومحموم باتجاه السلطة وامساك زمام الامور قبل ان يستفيق الباقون من نشوة انتصار الثورة واعادة الحسابات وميزان الربح والخسارة او بكلمة اوضح من ربح الثورة كحزب او تيار ومن خسر دون احتساب الشعب وما قدمه من شهداء وجرحى ودمار  .من هنا يأتي اهتمام دول الجوار باحتضان ما يمكن احتضانه من هذا المشروع الاسلامي الناشئ وترويضه قبل ان يفلت من زمام السيطرة ويذهب باتجاهات تخالف رؤية الطامعين ويجر الى ما لا تحمد عقباه .
الثاني : وهو المشروع الايراني الذي عمل دائما على تصدير الثورة الاسلامية الى الجوار وبث روح التحرر من القيود الغربية على الطريقة الاسلامية المدعومة من النظام الشرعي الاسلامي ،والتحرر من الانظمة الرجعية العربية التي تدور في فلك الغرب وذلك عبر مد اذرع الثورة الام الى كل مكان يستطيع فيه الفقيه الايراني الوصول دون الاخذ بالاعتبار طريقة تصدير هذه الثورة اكان بالقناعة او الترغيب او الترهيب وشهدنا على ذلك في لبنان حيث رسخت ايران ذراعا عسكرية اولا بحجة المقاومة ثم ما لبثت ان أصبحت مشروعا سياسيا لاستلام الحكم في لبنان عبر التأني والنفس الطويل بمساعدة النظام السوري الذي بدأ بدفع ثمن هذا التحالف بسقوطه القريب .من جهة ثانية استطاعت ايران الوصول الى التماس مع اسرائيل ايضا من خلال استفرادها بحركة حماس بعد انشقاقها عن السلطة الفلسطينية وبتشجيع من سوريا وبسبب اسرائيل ايضا من خلال الجمود القاتل بمسيرة السلام المتعثرة . ان هدف وصول ايران الى حدود اسرائيل لا يعني لمحاربتها ولو كانت هناك بعض مقدمات هذا التموضع الجديد بل ان الهدف يكمن في مقاسمة اسرائيل السيطرة على الجوار والتحكم بمقدرات هذه الدول . لذلك نرى ان المشروع الايراني في المنطقة الآن هو وقف تصدير الثورة الاسلامية التقليدية لان المنطقة تعج بالثورات المتلاحقة والمتوالدة من بعضها بل ان هذا المشروع يتجه  للحصول على الممكن من العالم الهش المتضعضع وبالسرعة القصوى قبل الانشغال القاسي بالملف العراقي القادم اليها من الاميركي على طبق من الالغام والحلوى الغربية . لا ارى شخصيا بالانسحاب الاميركي من العراق الا فخا لإيران لتغوص فيه ويلهيها عن التلاعب بالعالم العربي الجديد ، ولكي تتنصل اميركا من مسؤوليتها عن تقسيم العراق الذي سيحصل حتما  بعد حين .
الثالث : وهو المشروع التركي ، هذه الدولة التي بقيت نائمة طوال قرن تقريبا بعد انهيارها الكبير بعد الحرب العالمية الاولى 1918 ، وبعد معاناتها الكبيرة مع العالم الغربي حول قبولها بالاتحاد الاوروبي ، وبعد الاستغناء عن خدماتها الامنية والدفاعية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي . ان تركيا تجد نفسها الان امام فرصة سانحة لإعادة امجاد الامبراطورية العثمانية الكبرى في وجه الامبراطورية الفارسية بحلتها الدينية الجديدة ذات الاهداف التوسعية تحت شعارات دينية لا تستطيع تركيا العلمانية القبول بها او التسليم بحدوثها .ان مشروع تركيا هو الترويج للنظام العلماني الديني الذي اثبت نجاحه وقوته في ايصال تركيا الى الساحة الشرق اوسطية والاوروبية قوية يحسب لها الف حساب . انه المشروع الاسلامي المعتدل بوجه المشروع الايراني المتطرف وقد سعت تركيا بكل ما لديها من قوة ولا تزال من اجل انجاح هذا المشروع ، بيد ان اولى عقبات هذا المشروع هي اسرائيل وسوريا ويجب تحيدهما عن الطريق بالطريقة الافضل وباقل خسائر ممكنة لنيل الرضا العربي بها ولا سيما ان العرب لا يزالون يذكرون جيدا سنوات الاحتلال التركي وفظاعة ذلك الاحتلال الذي دام لأربعمائة عام . لقد راينا تدهورا سريعا بالعلاقة التركية الاسرائيلية ولكنه مدروسا جيدا بحيث لا يضر بالأمن القومي لكلا الفريقين ولا بأمن المنطقة بشكل عام ، ذلك لان مجرد سوء تفاهم مع اسرائيل كفيل بجلب وجذب الرأي العام العربي بسرعة قياسية . من جهة ثانية نرى الهجمة التركية الشرسة على سوريا لإزالة نظامها ومحوه من الوجود لان هذا النظام هو آخر نظام الاقليات وآخر الانظمة العقائدية في الشرق التي انتهت صلاحيتها بانتهاء الاتحاد السوفياتي ، وستسعى أيضا الى فرض سيطرة اخوية انسانية وحسن جوار على الشعب السوري واستمالته نظرا الى قيمة دعم هذا الشعب للمشروع التركي الذي سيقف بوجه المشروع الايراني ، ولا ننسى ان سوريا كدولة هي الوريث الشرعي للدولة الاموية اي الخلافة العربية . ان الاتي اعظم من بين هذين المشروعين وان ما سنراه في المستقبل القريب سيشمل ما كان يعتبره الشيعة ولا يزالون خدعة تاريخية افقدتهم ما هو حق لهم .سنشهد اعادة تحكيم من جديد وسنشهد ايقاظ ابا الاشعري من جديد لاسترجاع حق الخلافة من عمرو بن العاص . ان الدولة ( العراقية –الفارسية ) الشيعية ، هي اولى بحكم العالم العربي الآن ، وهي اولى باحتضان الامة الاسلامية واعادة احياء الخلافة ومبايعة خليفة الامام علي ( رضي الله عنه )، اي مبايعة عليا جديدا وفقيها منتظرا، وما بين هذا وذاك ، الاتي اعظم .
عزيزي القاريء
بعد حرب العام 2006 تعلمت اسرائيل درسا جيدا ليس فقط من الناحية العسكرية بل من الناحية الاستراتيجية التي تخص البقاء بشكل خاص ، واعني هنا ان اسرائيل تعلمت ان السلام هو مجرد وهم تعيش فيه اذا لم يكن من ذئب يحمي هذا السلام ، هذا على الاقل باعتراف الغالبية الساحقة من الشعب الاسرائيلي . لقد اقنعت اسرائيل نفسها بان انسحابها من لبنان سيقرب السلام منها اكثر ، وفعلت رغما عن انف العسكر، ثم انسحبت من غزة رغما عن انف الشعب ، وفعلت وهي لا تزال تحاول فهم المتغيرات من الانسحاب الاول وفوجئت بحجرين يسقطان على راسها دفعة واحدة . ان التنازل من اجل السلام يعني الضعف بنظر الآخرين ، والقوة والضرب بيد من حديد من اجل السلام يعني التعدي والتوسع والعدوان ، وهكذا وجدت اسرائيل نفسها بين سلامين : الاول يجعلها ضعيفة والثاني يجعل اخصامها اقوياء ، فجاء القرار بإعادة التجهيز والتسلح والتدريب لصنع السلام الاسرائيلي المنفرد وهو السلام الحقيقي الذي ينفع الدولة العبرية وهو السلام مع الفلسطينيين لان هذا السلام ان انجز لا يهم بعده ان كان سلاما مع العرب ام لا ولان الفلسطينيين هم المعنيون اولا واخيرا بالسلام مع اسرائيل لان دولتهم هي من صنع اسرائيلي وليست من صنع عربي وهذا هو الامر الذي يجب ان يفهمه الفلسطينيون جيدا .
 نعم ان المشروع الاسرائيلي هو مشروع امني قبل كل شيء ، فبالنسبة اليها الحدود الآمنة دون اتفاق سلام افضل بكثير من حدود مضطربة مع اتفاق سلام ، وهذا ما حصل فعلا مع مصر والاردن بحيث ان السلام لم يهدئ الحدود في حين ان الحدود السورية في الجولان هادئة تماما منذ وقف اطلاق النار عام 1974  وليست هناك اية اتفاقية سلام . اذا بالنسبة الى اسرائيل لا يهم ابدا من يحكم الدول العربية طالما الحدود آمنة ، وليفهم الجميع ان المشروع الاسرائيلي لا يتناسب ولا يحاكي اي من المشاريع الاخرى في المنطقة ، ان كل ما تطلبه اسرائيل هو الامن والامن فقط ومن يريد اللعب عليه الخروج والابتعاد عن ساحتها الخلفية .
من اسرائيل ،ان الآتي اعظم الذي يترك العرب وشأنهم يتخبطون بين سني وشيعي وبين مشروع الخلافة ومشروع ولاية الفقيه ، بين مشروع التشدد والاعتدال، وبعد انتهاء هذه المعمعة ستجد اسرائيل حتما الفرصة السانحة لانتقاء السلام الذي تريد من بقايا هذا المشروع او ذاك .
اننا امام بزار كبير في المنطقة ، وقد عُرضت البضاعة المنوي بيعها بدءا من العراق (دولة) وسوريا (النظام ) مرورا بحزب الله (السلاح) وحماس (الهدف ) وصولا الى البرنامج النووي الايراني (نفوذ)، وستشهد الاشهر القادمة مساومة حادة بين البائع والمشتري .

وان الآتي اعظم .......

الأحد، 11 ديسمبر 2011

الخيار الأخير

                             

" لبنان اصغر من ان يقسم واكبر من ان يبتلع " جملة تغنى بها السياسيون في لبنان انها الكرة السحرية التي يقذفها كل من يجد نفسه محرجا بأزمة ما او متلبسا بموقف غير راغب فيه وما اكثر رجالات السياسة عندنا المتلبسين والمحرجين ، المتنمرين والمتهكمين .متلبسون بأزمات من صنع اياديهم ومحرجون بحلول تناقضت مع رؤيتهم ومبتغاهم ، متنمرون بمخالب غيرهم ، ومتهكمون على شركائهم في الوطن تارة بالتبعية وتارة بالولاء المشكوك بأمره وأخيرا بالخيانة كل ما ضاق القاموس بالمفردات الملائمة للنعت والسخرية والتجريح ، وبالتالي سوق الناس بشعارات ولدت من رحم الحالة الراهنة . لنعود بالذاكرة الى تلك المقولات الشهيرة التي طبعت حياة اللبنانيين بالقوة في فترة الحكم بالقوة والامن بالخوة ، اعود الى " قوة لبنان في ضعفه " و" المسار والمصير " و"البقرة الحلوب " و " الشعب والجيش والمقاومة " و " شعب واحد في دولتين " و " دولة لشعبين شقيقين " الى ما لا نهاية من كلمات رنانة كلها شعارات اقتربت كثيرا لتكون خيارات منها ما هو فرض الوجود ومنها ما هو واجب الوجود ( عذرا من الغزالي ) ، ومنها ما هو منزل من خلف الحدود ، حتى كفر الوجود من تلك الردود .
اخي القاريء
لنلقي نظرة قريبة وعن كثب على هذا الكيان المسمى بلبنان ( ارجو المعذرة على هذه الكلمة التي لا تليق بالأحرار) ، واسمح لي عزيزي القارئ بذلك لأني لا استطيع ان اصفه بصفة سياسية محددة فلا هو جمهوري ولا رئاسي بل محاصصة وتوافق مرحلي ، ولا هو ملكي لان الملكية انتهت بانتهاء الملك أحيرام ، ولا امارة لان الامارة دفنت مع الامير فخر الدين ، ولكننا نحن اللبنانيون سباقون دائما الى الابداع والابتكار فقد اوجدنا صفة ملائمة واسما يختصر الجميع ويجمع الجميع ويعطي سببا لكل من نوى وآه لكل من هوى ، وعذرا لكل من هوى . انها "المزارع اللبنانية المتحدة " وعاصمتها مزارع شبعا المحتلة .  ان مفهوم الدولة بسيط جدا : شعب قرر العيش على بقعة ارض معينة ضمن شروط تسمى قانونا ، وهكذا يقوم كل فرد او جماعة بتنفيذ ما هو مطلوب منها تحت سقف هذا القانون فيصبح لدينا دولة لها شروطها ومقوماتها وبنيتها ، واذا اخل احد بهذه الشروط يصبح تلقائيا خارجا على القانون وبالتالي خارج الدولة . فمن من الفرقاء اللبنانيين لم يخل بهذه الشروط ؟
منذ كان لبنان قويا بضعفه كان العرب ايضا اقوياء بضعفه حتى اصبحوا اقوياء اكثر على ضعفه .لقد جعلوه ساحة الصراع المفتوحة لتنفيس الاحتقان عندهم ، منهم من رأى فيه مكب نفايات للازمات الداخلية عنده ، ومنهم من وجده مسرحا لشد العضلات ، ومنهم من اتخذه بديلا لكيان او خطة او حل . هكذا ابتلعه العرب على مائدة الجامعة اللبنانية بملاعق فلسطينية وانياب سورية .اصاب السوريين عسر هضم عسير ووصلوا الى حد بصق هذا الكيان في وجه اسرائيل عام 1982 لولا تدخل الطبيب الغربي الحكيم السيد فيليب حبيب وحسّن شعور السوريين قليلا واراحهم من تلك الوعكة الصحية. بقي مع ذلك هذا الكيان اللبناني مترنحا بين فكين ومعدتين الى ان تركه الاسرائيلي على اساس انه حصرم من حلب وان الحلبيين اولى يهذا الحصرم .
انطلقت شرارة "المسار والمصير "لتنور دروب التحرر والممانعة والصمود والتصدي وابتلعت سوريا هذا الكيان معيدة ملكية انتزعها منها الفرنسي الغاشم الجنرال "غورو " وكأن معدة الجار السوري قد شفيت فجأة وان عسر الهضم قد مر وزال وان مسار البلدين واحد لان مصيرهم واحد ، فمصير سوريا ان تبتلع لبنان ولا حول ولا قوة الا بهذا البلع ومصير لبنان القبول بهذا البلع حفاظا على الكيان من شراهة الفك الاسرائيلي الذي يحاول دائما اغتنام الفرص المرة تلوى الاخرى .وهكذا بقي "المسار والمصير " يتغذى على "البقرة الحلوب" اللبنانية الكاملة الدسم، لا تبخل على جار ابدا مهما جار ،تعطي دون منة ودون حساب وبقي هذا الشعار يبني قصور القصور(كلمة القصور هنا تعني الضعف)والقوة الواهية والجبهة السراب والتهديد والوعيد لا للعدو المتربص ، بل لكل من لا يقبل بهذا الشعار الذي اصبح خيارا بالفرض والاستبداد تارة بالشعبين الجارين المتحدين بدولة واحدة تعيد امجاد الخلافة الاموية ، وتارة بدولتين لشعب واحد شده الحنين لعهد الخلفاء الراشدين لشدة ارشاد الشيوخ والعلماء على الوهية القيادة وقدسية الحاكم صاحب مفتاح جنة الخلد والنعيم ، فانبعث البعث القريب على انقاض البعث البعيد من مخلفات انبعاث دخان نفس الحليف والعدو. تطورت اللعبة وتجددت وادخلت عليها شعارات وخيارات ولكن القديم بقي على قدمه يبني على اسس لم يعد بإمكانها الصمود امام اثقال التطلعات وآمال التجديد وانهار سور الصين العظيم وسقطت روما وعاد الاسد الى عرينه منهكا وتعبا لاعنا تلك الغابة الوعرة متوعدا السلحفاة البطيئة الزاحفة بثبات نحو الحرية والكرامة . هكذا بصقت سوريا الكيان هذه المرة واعادته لأبنائه علهم يغسلونه من لعاب لطالما يشد اليه الفك من جديد .
خرجت المزارع اللبنانية المتحدة من الفم الاسرائيلي مفعمة بنصر مزيف وبنشوة القاهر المستبد وبتوكيل الهي طويل الامد ، ولتخرج من معدة السوري عنوة عارية هزيلة وتدخل في غيبوبة تشبه غيبوبة المريض امام باب غرفة العمليات . انه مرض مستعصي ، فتاك ، استمد قواه المعدية من حاضنة له ومسببة لوجوده في الحدود الجنوبية ، فاستنفرت العقول وابدعت في التحليل والدراسة وسبر الاغوار، واُحضر اطباء فارسيون متخصصون بهذه الانواع من الفيروسات والطفيليات وعولجت احشاء هذا الوطن اليتيم وبرأت والحمد لله بوصفة الدواء الشافي الفعال: "الشعب والجيش والمقاومة " ، وصفة فُرض تناولها على الافراد يوميا حتى طاب كل سقيم وعليل وشفيت المقاومة من الجيش وزالت عنها حمى الشعب واستقامت الامور في بلد المزارع وذاب الثلج وانقشعت الغيوم واستغنى المثلث عن قائمتيه ليصبح الشعار : المقاومة والمقاومة والمقاومة .ابتلعت هذه المقاومة المزرعة تلوى الاخرى من مزارع الجيش الى مزارع الشعب ، ومزارع شبعا صامدة حجة وعذرا وسببا لهضم الكيان ولبعثه ولاية الآية وكبش الفقيه .
عزيزي القارئ
من منا يريد تقسيم لبنان ؟ لا احد لأنه مقسم ومن يُقسم المقسم عقله مُقسم. ندري او لا ندري نرضى او لا ، انها الحقيقة ولنتعايش معها بالتي هي احسن ، لبنان او ما بقي من هذه المزارع مقسم جغرافيا وتاريخيا وتربويا ، ثقافيا ، اجتماعيا ماليا وامنيا ، كل شيء فيه مقسما ولا ينقصه الا ترميم الخارطة الهيكلية قليلا ليأخذ مجرى التثبيت وترسيم الحدود الداخلية لعدم الحاجة للحدود الخارجية لأنها منتهكة كل يوم وكل ساعة . كل طائفة تحتفظ لنفسها بأماكن محرمة على الغير من بؤر امنية الى بؤر دينية ناهيك عن امارة الفلسطينيين في المخيمات والبقاع والناعمة . هذا بالإضافة الى استحضار الماضي القريب والبعيد والضرب على وتر الجماعات ،اصلها واصولها جذورها وامتدادها وتحالفها وبالتالي حالتها وجودة بذورها . تاريخ الجماعة والطائفة وصولا الى تاريخ كل بلدة وكل قرية . كل له مدرسته وجامعته كنيسته وحوزته ارشاده وتوجهه كل له صلاته (الوطنية وليست الدينية )كل يغني على قدسية وجوده : مدارس كاثوليكية ، حوزات شيعية ، مقاصد سنية ، عرفان درزية ، تربية وطنية مستقلة وتربية دينية مستقلة .كل طائفة لها مواردها المالية ولها جبايتها الخاصة ( اخيرا تعلمنا من الجباية اليهودية )، فعندنا جباية شيعية قيد الانتشار ، واخرى مسيحية عالمية ، وجباية سنية عربية ، وجباية درزية في طريق العولمة ، لهم بنوكهم ،وجمعياتهم المصرفية ، شركات ومقاولات ، صناعات وتجارة حرة . نحن في انقسام طبقي شعبي ، طبقات غنية واخرى فقيرة ،عاملة ومتفرجة ،طبقات مسلحة واخرى مُشلّحة ،طبقات مقاومة واخرى عميلة ،طبقات وطنية واخرى خائنة .
هكذا والحبل على الجرار ويكفي ما عندنا وما لدينا ولم يبق سوى ازاحة بعض علامات الحدود ورسم بعض المنعطفات لنصبح كيانات صغيرة ومزارع تزرع جميع أنواع البغض والكراهية والتفرقة ، ولنتقاسم سطور لبنان الرسالة ولنجتزئ منها ما يعنينا في كل كيان صغير . انها الحقيقة ولا مفر من الاعتراف بها وخاصة من الذين لا يزالون ينادون بان لبنان لا يقسم ولا يبتلع .
نعم يا دولة الرئيس بري ، ممكن ان يقسم لبنان لان الشعب مقسم وممكن ان يبتلع ايضا لان هذا الشعب لا يدين له بالولاء فالمسألة ليست بكبره او بصغره بل بالقناعة التامة بنهائية هذا الوطن لجميع ابنائه .
اخي القارئ
لا هذا ولا ذاك ، لا التقسيم ولا البلع ، لا يجدينا نفع الا خيار الوحدة والتكافل والتضامن ، انه الخيار الاخير لنا  ، كلنا مدعون اليوم وبكل جرأة وشجاعة لنعلن الخيار الاخير الواحد المتبقي وهو خيار الدولة . الدولة التي يجب ان نبنيها ونحميها لتحمينا لاحقا ، خيارنا الآن ولاحقا والى الابد . ادعو الجميع الى تحكيم العقل والمنطق ولا سيما اننا على ابواب تغيرات خطيرة وعلى مفترقات مصيرية اما البقاء او الفناء ، خيار بسيط جدا لا يطلب اكثر من الولاء والانتماء .

ملاحظة : نزولا عند رغبة الكثير من القراء ، سأحاول الرد لاحقا على كل الاسئلة التي وردت والتي سترد والمتعلقة بقضايا المنطقة الجنوبية من تاريخ اتفاق القاهرة 1969 وحتى الانسحاب الاسرائيلي عام 2000 . بالاضافة للمقالات السياسية المعتادة . 

الخميس، 1 ديسمبر 2011

فالج لا تعالج

منذ فجر الاستقلال الاول ، ومنذ نشوء الجمهورية الاولى وعلى مدى سنوات طوال، كان الاصلاح والحرب على الفساد الشغل الشاغل لرؤساء الحكومات والوزراء والنواب الذين كانوا يصبون جام غضبهم على هذا الفساد في البيانات الوزارية المتعاقبة حتى ان بعضها جاء نسخة طبق الاصل  عما سبقه ، وكان المواطن اللبناني يأمل منذ الفجر الاول في معالجة هذه الآفة الآخذة في التضخم حتى طالت كل مفاصل الحياة في لبنان وتنوعت لتشمل كافة المرافق العامة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاعلامية والتربوية وكل شيء يطرأ على بال القارئ .
ان تعريف الفساد تنوع بتنوع المُعرّف ، وعندنا نحن الشرقيون نتبارى ونتنافس في تعريف الفساد واسبابه حتى اتفق الجميع على ان الفساد هو نتيجة حاصلة من كل حكم سابق ومن كل مسؤول مر في هذا الحكم البائس ، وهكذا نرى ان الفساد يُطرح عقب كل تغيير حكومي او نيابي او نقابي او مؤسساتي اكان عاما ام خاصا ، ونرى ان لا تداول في الفساد الحاضر اثناء الحكم لأن الحكام مشغولون في معالجة الفساد السابق وهم في طور تصليح الامور وترميمها .
ايها القارىء الكريم
اتفق الجميع على ان كلمة الفساد تعني قبل كل شيء السرقة ، والسرقة تعني المال ، فاذا الفساد يُختصر تحت عنوان "الفساد المالي" . كل من يتحدث عن الفساد يتطلع مباشرة الى الايداعات والصناديق الاستثمارية والسحوبات والسلفات والصفقات مع العلم ان الفساد في لبنان هو فلكلور حكومي رسمي وشعبي ومن صلب الثقافة العامة اللبنانية ، فلا حياة لحكومة او مؤسسة دون فساد ولا مجال لتولي المسؤولية دون الاخذ بحساب الحصة وقيمتها مقابل التعب والقبول بهذه المسؤولية واصبح البعض من المسؤولين واجهة فساد لمسؤولين اكبر وللأسف كل هذا بعلم المواطن اللبناني ورضاه وموافقته . ان ابسط الأدلة والبراهين على ذلك هو استعداد المواطن وبكل طيبة خاطر لدفع الرشوة وحسب التسعيرة المتبعة ودون مفاصلة او مكاسرة لإنجاز معاملة حكومية او الحصول على اية وثيقة شخصية تربوية او عقارية وهو على علم بان هذا هو الفساد بعينه ، ليس فساد المسؤول فقط بل فساد المواطن الذي ساهم في تعميم واستمرار الفساد بشكل عام .
ان اصلاح الفساد المالي في لبنان هو من سابع المستحيلات ان لم نقل من المستحيل المطلق ، لأن هذا الفساد هو من صلب التربية المدنية عندنا وهو مكافأة على حمل الاعباء الجماهيرية وحل مشاكل المجتمع المدني والأهلي اي اننا نرى وبكل اسف هذا الفساد في كل مكان حتى داخل البيت بين الأخ واخيه والأب والأبن وصولا الى الاوقاف والمقدسات . نعم لقد تعودنا عليه وها نحن نتعايش معه ولا احد يصرخ ولا يشتم ولا يستنكر ولا يبالي، بل كل واحد ينتظر دوره وينتظر فرصته ليأخذ نصيبه بواسع الدبار والحيلة او اجرا لقاء تمرير الفساد وحفظه وتلقينه للأجيال القادمة . اذا لننسى موضوع الفساد المالي ولنتجه الى فساد آخر اشد خطورة واكثر تقويضا للوطن وللمجتمع ، هذا الفساد العظيم المتعدد الأوجه الذي يعصف بالوطن دون ضجة ودون رحمة ، فلنلق الضوء عليه ولندق ناقوس الخطر منه ولنذكر فارابي لبنان بوجوده .
ان الاعلام في لبنان يتمتع بهامش حرية لا بأس فيه مقارنة بالإعلام المحيط بنا ، وبناء على هذه الحرية وبناء على ما ضمنه الدستور اللبناني من حرية التعبير والكلمة وحرية الرأي والمعتقد ، نرى نتيجة لذلك عددا لا بأس فيه من المحطات الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة كل منها يشد على يد مؤسسه ومموله وحاميه ويأخذ الغطاء السياسي الملائم لهؤلاء الداعمين ضاربين بعرض الحائط اصول وحدود الديمقراطية التي اتاحت لهم اصلا حرية امتلاك هذه الابواق ومتبعين طريقة الذم والشتم واباحة الممنوعات والأكاذيب، غير عابئين بمسامع الجمهور ولا باحترام الراي والرأي المضاد ومعلنين الحرب على كل من لا يأخذ برأيهم ويسلك طريقهم ،هذا الأعلام الموجه والمحرض الذي عاث فسادا بعقول الناس تربويا وسياسيا واجتماعيا ودينيا، هذه الحناجر التي اعتادت على الكذب والنفاق وهذه الأقلام التي جيرت ذكاءها وعلمها ودرايتها لصالح الولاء السياسي لا للحقيقة ولا لنقل الصورة كما هي ولا لمصداقية العلم والخبر ، ، أوا ليس هذا فسادا ايها الفارابي؟
اخي المواطن الكريم
لا بد من الاعتراف بان النظام الانتخابي في لبنان هو نظام فريد من نوعه من حيث المساواة والشفافية وصحة التمثيل ، وهو فريد من نوعه ايضا من آليات التنفيذ والتطبيق ، وهو فريد من حيث التوقعات التي غالبا ما تأتي متطابقة ، الأمر الذي اعجب وابهر المراقبين والمتتبعين للسياسة الداخلية اللبنانية . ان هذا ليس بشرف نفتخر فيه ولا بعزة نترفع بها ولا بميزة تميزنا عن بقية الأمم المتحضرة ، بل هذا هو وصمة عار على جبين كل نائب اولا قبْل ان يكون على جبين المواطن ، لأن هذا النائب الكريم الشهم يعرف حق المعرفة كيف وصل الى الحلبة النيابية ، وكيف وصل فعلا الى تمثيل مزيف للشعب بأصوات طائفية ومذهبية لا تمت بصلة الى طائفته او مذهبه او منطقته. كيف يُعقل ان نرى نائبا يفوز ولا يمثل منطقته وآخر يفوز عن منطقة لا يسكنها وليس من مواليدها ولا تربى فيها ولا يعرف احدا منها ، ومحادل هنا وجرارات هناك ، ولوائح محافظات هنا واقضية  اخرى هناك ، وكل يفصل على مقاسه ، اوا ليس هذا فسادا ايضا ايها الفارابي؟
ان ابسط حقوق المواطن المسكين ان يعرف الحقيقة ولو حتى جزءا منها عن كل من يريد التنافس على الحلبة السياسية او النقابية او تولي مسؤوليات في الدولة او من يمثل مجموعة او ينوب عنها ويتكلم باسمها ، من مستوى التعليم الى الثقافة العامة ، الى الخلفية السياسية الحقيقية والاجتماعية والوطنية ، المهنة والبرنامج ، وجوده في الوطن او غيابه عنه ،فلا يعقل ان يأتينا شخص قضى معظم حياته في الخارج ويصبح بين ليلة وضحاها وزيرا او نائبا في البرلمان عن منطقة لا يعرفها الا بالخارطة، ولا يجوز ايضا حشر اسما ترضية لهذا او ذاك . انه الفساد السياسي المطلق بدءا من القانون الانتخابي وشروط الحملة الانتخابية والتمويل والاعلام والتحالفات الغير منطقية ، الى التمثيل النيابي والتوزير والمحاصصة في الوظائف العامة ، نعم انه الفساد الذي يقوض كل خطة للنهوض بالوطن من خطط اقتصادية وتربوية ودفاعية واجتماعية ويهدد استمرارية الوطن كوطن والبلاد كأمة واحدة . اوا ليس هذا فسادا ايها الفارابي ؟
اخي القارئ
المعروف عن اللبناني حبه للسياسة، وشغفه بالاستطلاع والاحتكاك بكل شاردة وواردة ، والمعروف عنه أيضا شدة تعاطفه مع الاحداث المحلية والاقليمية والعالمية على حد سواء ، وشدة ولائه لأي معتقد يراه مناسبا له او لأي تيار سياسي يراه على قدر تطلعاته ، حتى اننا في بعض الاحيان نجد مناصرين في لبنان لرئيس بلدية ثائر ام متنمر في كولومبيا او الهند او التيبيت . ان اللبناني يستمتع بالأحداث السياسية والخطب الرنانة على سبيل التسلية احيانا وعلى سبيل التأييد احيانا اخرى وعلى حب النكاية "والز كزكة " لأنه فعلا سئم هذه المهنة وهذه النغمة ولكن ؛ لا نقبل ابدا الوصول الى الهاوية خجلا واذلالا من تخاطب السياسيين مع بعضهم البعض ليصل الامر بهم الى الشتم والسباب العلني وعلى منابر المحطات التلفزيونية وامام ملايين المشاهدين من شتى انحاء العالم . نعم لقد اذل هذا المشهد اللبنانيين واعادهم الى العصر الحجري في الاخلاق والمخاطبة ، وكرس نظرية الأنا ،، وانا فقط . ماذا نقول للشابات والشباب؟ ماذا نقول لطلاب المدارس ، في التكميليات والثانويات ؟ ماذا نقول لهم عن هذا الحراك بل عن هذا العراك الذي قفز من النظرية الى التطبيق بقوة المبدأ والحجة والاقناع باليد والكأس والكرسي ومن اشخاص يفترض بهم ان يكونوا القدوة في التحاور والنقاش ، فماذا تركوا لنا في الخارج لتناقش فيه او نتحاور . اوا ليس هذا فسادا ايها الفارابي ؟
 اخي المواطن
ان السلاح هو زينة الرجال ، وسلاح الاحزاب خيبة الآمال ، وسلاح الطوائف مدمر الاجيال، فما من فساد اشد واقسى من فساد السلاح، وما من فساد يقوض ويدمر وينهي الاوطان والامم الا فساد السلاح .لا اريد اطالة الحديث بهذا الشأن فكل شخص بالعالم اجمع اصبح ملما بموضوع السلاح في لبنان من سلاح حزب الله الى سلاح امل الى الاحزاب اليسارية التي تدور في فلك النظام السوري وفي تحالف حزب الله – امل ، الى السلاح الفلسطيني الشرعي والغير شرعي ، داخل المخيمات وخارجها ، سلاح العودة وسلاح التوطين ،سلاح الحرب الاهلية والمقاومة اللبنانية ، سلاح الغلبة الدينية الى المقاومة الاسلامية ، سلاح ضد اسرائيل وسلاح حامي لإسرائيل . اوا ليس هذا فسادا ايها الفارابي ؟
ايها الفارابيون في لبنان
وسط هذا الازدحام الحاد بالفساد اللبناني ، ووسط هذا البحر من ملفات الفساد منذ عشرات السنين ، ووسط هذا التداور في الفساد والامعان فيه ، نرى ان فساد غض النظر قد افسد النظر في عيونكم واعماها عن كل فساد الا الفساد الذي ترون فيه مصلحة لكم بإثارته والتكلم عنه . يطالعنا كل يوم فارابي جديد من سلسلة الاصلاح في المدينة الفاضلة اللبنانية بخطبة المهاتما غاندي بالتصميم والمثابرة ، والام تيريزا بالطهارة والنظافة سعيا لإصلاح ما خربه السلف متناسيا ما هو فيه بل ما هم فيه من فساد احتكار السلطة الى التوريث السياسي وصولا الى العبث الاستراتيجي القاتل .كفاكم لعبا على نغمة الفارابي ( طيب الله ثراه )وكفاكم نحبا على مدينة الفارابي الفاضلة ، وكفاكم امعانا في النزاهة والشفافية والادب ونظافة الكف وعفة اللسان والحوار البناء والمنطق . ان من يريد تنظيف الشارع عليه اولا تنظيف بيته ، ومن يريد تنظيف الوطن عليه تنظيف المبادئ اولا ومن يريد المدينة الفاضلة عليه ان يكون فاضلا او فاضلا ....او فاضلا .